كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 3)
وقولُنا باستحبابِ تكرار الدَّعوة عمومًا مشروطٌ بأنْ لا يَتَضمَّن الإبلاغ ضَرَرًا على المسلمين: كأن يُعلَم بأنَّهم إذا جُدِّدت لهم الدَّعوةِ تَنبَّهوا، فاستعدُّوا، أو احتالوا، أو تحصَّنوا، أو استدعوا مَدَدًا، ونحو ذلك ممَّا لا يَقوى به المسلمون عليهم (¬١).
ومِن الأمورِ المَطلوبةِ في الحروبِ سُرعة الحَسم، تقليلًا للخَسائر على اختلافِها، فلذلك اُستحِبَّ في مثلِ هذه الصُّوَر المُفترضةِ -الآنِف ذكرُها- عدمُ تجديدِ الدَّعوة؛ وغَلَبة الظنِّ في هذا تظهر مِن حالِهم، وهو أمرٌ مَوكولٌ إلى اجتهادِ الإمام، فإذا رأى في تركِ الدَّعوةِ صَلاحًا فَعَل، ويلزمُ الجُندَ طاعتُه فيما يَراه (¬٢).
قلت: فحديث إغارةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلقِ يَتَنزَّلُ على هذا التَّفصيلِ بالتَّمام! وبيانُ ذلك: ظاهرٌ أمثلتُها من سِيرته صلى الله عليه وسلم مع مَن لم يُسلِم مِن قبائل العَربِ:
فإنَّه -بأبي هو وأمِّي- لم يُقدِم على الإغارةِ على أيٍّ مِن أولئكَ دون سابقِ دَعوةٍ خاصَّة أو إنذارٍ؛ فهذا الأصل عنده، إلَّا أن يجتمِعَ في القَومِ منهم خِصلتان:
أوَّلهُما: أن يكونوا ممَّن سَبَقت إليهم الدَّعوة، فلا يجب تكرارها.
وثانيهما: أن يكونوا مِن الحَرْبيِّين المُعادِين للإسلامِ وأهلِه، فتكون الإغارة عليهم تَنكيلًا بهم، ودفعًا لأيِّ مَفسدةٍ محتملةٍ مِن إنذارهم.
---------------
(¬١) انظر «المبسوط» للسرخسي (١٠/ ٣١).
(¬٢) لذا كان الأَوْلى في نظري عدم قصرِ حكم تكرار الدَّعوة على الاستحباب فقط، بل تُسحب المسألة على مختلفِ الأحكامِ الفقهيَّة، لاختلافِ مناطاتِ الحكم باختلافِ أحوالِ جيشِ المسلمين وعدوِّهم.
ثمَّ وقفت -بحمد الله- على كلامٍ للقرافيِّ يوافق في جملتِه ما ارتأيته، حيث قال في «الذخيرة» (٣/ ٤٠٣): «لا خلاف في وجوبِ الدَّعوة قبل القتال لمِن لم يبلغه أمرُ الإسلام، ومَن بَلغه فأربعةُ أقسام:
واجبة: مِن الجيشِ العظيم إذا غَلب على الظنِّ الإجابةُ على الجِزية، لأنَّهم قد لا يعلمون قبولَ ذلك منهم.
ومستحب: إذا كانوا عالمِين ولا يغلُب على الظَّن إجابتهم.
ومباحةٌ: إذا لم يُرجَ قبولهم.
وممنوعة: إن خُشيَ (أخْذُهم) لحَذَرِهِم بسَبِبِها» ا. هـ
الصفحة 1301
1883