كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

فإن كانا قَطعيَّين: فإنَّه يمتنع حصولُ التَّعارض بينهما، لاستلزام ذلك الجمعَ بين النَّقيضين، وهو غير جائز (¬١).
وإن كانا ظَنِّيَين: فيُلْتَمَس ترجيحِ أحَدِ الدَّليلين بمُختلف أدوات التَّرجيح المُمكنة، فأيُّهما تَرجَّح بها، كان هو المُقدَّم.
وأمَّا في حالةِ كونِ أحَدِ الدَّلِيلَيْن قَطعِيًّا والآخر ظنِّيًا: فإنَّ التَّقديمَ حاصلٌ للقَطعيِّ منهما، سواءٌ كان سَمعيًّا أو عقلِيًّا (¬٢).
وبهذا التَّقرير، يَتبينُ ما تأسَّس عليه تقسيمُ الرَّازي مِن مُغالطة، ناشئة عن نظرِه إلى نوعِ الدَّليل، لا إلى مَرتبتِه في درجاتِ العلمِ؛ وكان الصَّوابُ أن يَتَّجه هذا النَّظرُ إلى درجةِ الدَّليل مِن حيث إفادتُه للقطعِ أو الظَّنِ (¬٣).
وبنفسِ هذا البيان المُفصَّل يتبيَّن -في المُقابل- غلَطُ مَن جعلَ مذهبَ السَّلَفِ عند التَّعارضِ: تقديمَ النَّقلِ على العقلِ؛ وهذا التَّقرير فاسِدٌ أيضًا! وهو وَهمٌ تَسَرَّب في كتاباتِ بعضِ المُعاصِرين (¬٤)، ناتج عن فهمِ خاطئٍ لكلامِ ابن تيميَّة مُنتَزعٍ مِن سياقاتِه؛ إذ لم يكُن مُراد ابن تيميَّة تقريرَ أصلٍ حين عبَّر أحيانًا بتقديم النَّقل على العقل، بل كان منه مُجاراةً للخَصْمِ في مَقام جَدلٍ، وتَنزُّلًا للرَّازي بصِحَّةِ التَّعارضِ، ليتوصَّل به إلى نَقضِه بكونِ خبر الصَّادق المَصدوقِ صلى الله عليه وسلم أولى بالتَّقديمِ.
فإنَّه بعد كلامٍ طويلٍ في مُناقشته قال: « .. فإنَّا في هذا المقامِ نتكلَّم معهم بطريقِ التَّنزُّلِ إليهم، كما نَتنزَّل إلى اليهوديِّ والنَّصرانيِّ في مُناظرتِه، وإن كُنَّا عالمِين ببُطلانِ ما يقولُه .. » (¬٥).
---------------
(¬١) «البحر المحيط» للزركشي (٨/ ١٢٤).
(¬٢) انظر «درء التعارض» لابن تيمية (١/ ٧٩ - ٨٠).
(¬٣) انظر «درء التعارض» (١/ ١٢٥ - ١٢٦).
(¬٤) كما تراه - مثلًا - في كتاب «الصِّفات الإلهيَّة» لمحمد أمان الجامي (ص/٥٨)!
(¬٥) «درء التَّعارض» (١/ ١٨٨).

الصفحة 135