كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

وطَعْنُ ذَوِي القُرْبَى أشَدُّ مَضرَّةً *** على الدِّينِ مِن حَربِ العُداةِ الأباعِدِ!
هذا هو حال الأنفس البَشريَّة في كلِّ زمانٍ، كامِنٌ فيها الشَّر لا محالة، سابحٌ بين جَنَباتِها هَواها كلٌّ منها بحسَبِه، يحبِسُها عن إظهارِه: الفِطرةُ، والدِّين، وخَشيةُ النَّاس؛ فإذا ما غَلَبها هَواها، وأمِنَت معه عقوبةَ السُّلطان: تَشَجَّعَت بالبَوْحِ بشرِّها الكامن، وجهرت بالدَّعوة إليه.
فلمثلِ هذه الحال النفسيَّة العجيبة الممزوجة بتخاليط الجهل ومُغالطات التَّفكير، يلتحقُ فِئامٌ مِن شبابنا بنابذي السُّنَن، مُناكفين لنَقَلتِها مِن أهلِ الفَضْلِ والمِنَنِ؛ «قد تَعالَوا علينا بضَخامةِ الألقابِ، مع فَراغ الوِطاب، يُوسِعون الدَّعاويَ العريضة، ويُجهِّلون العلماء الأُصَلاء، بآرائهم الهشَّةِ البتراء، وينصرون الأقوال الشَّاذة، لتَجانُسها مع عِلمِهم وفهمِهم، ويُناهِضون القواعدَ المُستقِرَّة، والأصولَ الرَّاسخة المُتوارَثة.
لم يقعُدوا مَقاعِدَ العِلمِ والعُلماء، ولم يَتَذوَّقوا بَصارَة التَّحصيلِ عند القُدماء، ولكنَّهم عند أنفسِهم أعلَمُ مِن السَّابقين» (¬١)، لظنِّهم أنَّهم مِن جُملةِ المُفَكِّرين!
فلقد جهِلَ المَساكينُ بأنَّ الثَّقافة والفِكرَ المُجرَّدَ لا يُخرِج الإنسانَ مِن الأُميَّةِ الشَّرعيَّة أبدًا؛ فإنَّما الفِكرُ تحليلُ المَعلوماتِ وتَقلِيبُها، فقليلُ العلمِ بمَ يُفكِّر أصلًا؟! وهل رزيَّتنا اليوم إلَّا مِن مُفكِّرٍ بلا عِلمٍ؟!
إنَّ مَن يَقرأْ تاريخَ المَذاهِب والنِّحَل قراءةَ مُقارِن، يُدرِكْ أنَّ كلَّ ضَلالةٍ هوَّشَ بها هؤلاء (المُفكِّرون) المُتأخِّرون، أصلُها أو مِثلُها كانت في السَّابقين؛ تَعَلَّقت بالإسلامِ كما يَتَعلَّق قَذَى الأرضِ بالعَجَلةِ، ثمَّ تَطويه بسَيْرِها.
لقد قَيَّد الشِّهرستانيُّ (ت ٥٨٤ هـ) (¬٢) لحْظَه لهذه العُلقةِ الفكريَّةِ قديمًا بين ما أُحدِث مِن مُعارَضاتٍ للنُّصوصِ الشَّرعيةِ في زَمنِه، وأصولِ المَقالاتِ المُبكِّرة في
---------------
(¬١) «صفحات من صبر العلماء» لعبد الفتاح أبو غدَّة (ص/١٠٩).
(¬٢) محمد بن عبد الكريم بن أحمد، أبو الفتح الشهرستاني: إمام في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة، من أشهر كُتبه «الملل والنحل»، انظر «تاريخ الإسلام» (١١/ ٩٤١).

الصفحة 16