كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

الإسلام، منبِّهًا على أنَّ هذا التَّوارث لتحريفاتِ الضُّلَالِ عادة قديمةٌ قِدَم الأديان، فقال: «إنَّ الشُّبهات الَّتي وَقَعت في آخرِ الزَّمان، هي بعينِها تلك الشُّبهات الَّتي وَقَعت في أوَّل الزَّمان، كذلك يُمكن أن نُقرِّر في زمانِ كلِّ نبيٍّ، ودورِ صاحبِ كلِّ مِلَّة وشريعةٍ: أنَّ شُبهات أُمَّتِه في آخرِ زمانِه ناشئةٌ مِن شُبهاتِ خُصماء أوَّلِ زمانِه مِن الكُفَّار والمُلحِدِين، وأكثرُها مِن المُنافقين.
وإنْ خَفِيَ علينا ذلك في الأمَمِ السَّالفةِ لتَمادي الزَّمان، فلَمْ يخفَ في هذه الأمَّة أنَّ شُبهاتها نَشأت كلُّها مِن شُبهاتِ مُنافقي زمنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ إذْ لم يرضوا بحُكمِه فيما كان يأمرُ ويَنهى، وشَرعوا فيما لا مسرحَ للفكرِ فيه ولا مَسرى، وسألوا عمَّا مُنِعوا مِن الخوضِ فيه، والسُّؤالِ عنه، وجادلوا بالباطلِ فيما لا يجوز الجدال فيه» (¬١).
يُصدِّقُ هذا نصٌّ نفيس للشَّاطبيِّ (ت ٧٩٠ هـ) (¬٢)، ينعت فيه الزَّائغين القُدامىِ في «رَدِّهم للأحاديثِ الَّتي جاءت غيرَ مُوافقةٍ لأغراضِهم ومَذاهِبم، فيَدَّعون أنَّها مخالفةٌ للمَعقول، وغير جاريةٍ على مُقتضى الدَّليل، فيجب رَدُّها؛ كالمُنكرين لعذابِ القبر، والصراطِ، والميزان، ورؤيةِ الله عز وجل في الآخرةِ، وكذلك حديث الذُّبابِ ومَقْلِه، وأنَّ في أحدِ جَناحَيْه داءٌ وفي الآخرِ دَواءٌ، .. وحديث الَّذي أخذَ أخاه بَطنُه، فأمَرَه النَّبي صلى الله عليه وسلم بسَقْيِه العَسلَ، وما أشبهَ ذلك مِن الأحاديثِ الصَّحيحة المَنقولة نقلَ العُدولِ.
فربَّما قَدَحوا في الرُّواةِ مِن الصَّحابة والتَّابعين رضي الله عنهم، وحاشاهم، ومَن اتَّفق الأئِمَّة مِن المُحدِّثين على عدالتِهم وإمامتِهم، كلُّ ذلك ليردُّوا به على مَن خالَفهم في المذهبِ، وربُّما ردُّوا فتاوِيهم وقبَّحوها في أسماعِ العامَّة؛ ليُنفِّروا الأمَّةَ عن اتِّباعِ السُّنةِ وأهلِها» (¬٣).
---------------
(¬١) «الملل والنِّحَل» (١/ ١٩).
(¬٢) إبراهيم بن موسى بن محمد أبو إسحاق: اللَّخمي الغرناطي المالكي، أصولي حافظ محدِّث، لغوي مفسر مع الصَّلاح والعفة، والورع واتباع السُّنة، من أشهر مؤلفاته «الاعتصام»، و «الموافقات»، انظر «شجرة النور الزكية» (١/ ٣٣٢).
(¬٣) «الاعتصام» للشَّاطبي (٢/ ٣٢).

الصفحة 17