كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

ثمَّ قال بعد أن ذَكَرَ الجميعَ: « .. الجميعُ بضعةٌ وتسعون نفسًا، أقربُها غرائب ضعيفةٌ، وأردؤها طرقٌ مختلقَة مُفتَعَلة! وغالبُها طُرقٌ واهيةٌ» (¬١).
فلعلَّ هذا منشأ البَليَّةِ في الحديثِ، أي: من انقطاعِه، فـ «لا يُدرَى الرَّواي له عن أنس رضي الله عنه، ثمَّ سرَقَه بعض الوَضَّاعين، مِن الشِّيعة والضُّعفاء والمَجهولين منهم، أو المُتعاطِفين معهم، فرَكَّبوا عليه أسانيدَ كثيرةً» (¬٢)، وهذا ما كان انتهى إليه ابنِ القيسرانيِّ في دراسته للحديث، حيث قال: «حديثُ الطَّائر مَوضوعٌ، إنَّما يَجيء مِن سُقَّاطِ أهلِ الكوفة، عن المَشاهيرِ والمَجاهيلِ، عن أنسٍ وغيره» (¬٣).
فكيف للحاكمِ أن يقول بعد كلِّ هذا أنَّ الحديث على شرطِ الشَّيخين؟!
ثمَّ لم يكتفِ هو بركونه إلى كثرة طُرقهِ الواهيةِ وتصحيحِه لأحدِها، بل قال عَقِب ذلك: « .. ثمَّ صَحَّت الرِّواية عن عليٍّ وأبي سعيد الخدري وسفينة».
ليَنتفِضَ عليه الذَّهبيُّ قائلًا: «لا والله ما صَحَّ شيءٌ مِن ذلك!» (¬٤).
وما حنَثَ الذَّهبي، فإنَّ الطُّرق إلى هؤلاء الثَّلاثة ساقطة الأسانيد، قد بَيَّن ابن كثيرٍ عِلَلَها، كما بيَّن عِلَل كثيرٍ مِن الطُّرق المُشار إليها آنفًا (¬٥).
العجيب بعدُ مِن الحاكِم: أنَّه مِن زمرة مَن ضَعَّف حديثَ الطَّير بالنَّظر إلى نكارة متنِه! ولم يَلتفِت إلى طُرقِه، وذلك فيما ساقه الذَّهبي في ترجمتِه بإسنادٍ صحيحٍ عنه: «أنَّهم كانوا في مَجلسٍ، فسُئِل أبو عبد الله الحاكم عن حديثِ الطَّير؟ فقال: لا يَصِحُّ، ولو صَحَّ، لمَا كان أحدٌ أفضلَ مِن عليٍّ بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم».
قال الذَّهبي عقِبَه: «فهذه حِكايةٌ قَويَّةٌ؛ فما بالُه أخرَجَ حديثَ الطَّير في «المُستدرَك»؟! فكأنَّه اختَلَف اجتهادُه» (¬٦).
---------------
(¬١) نقله عنه ابن كثير في «البداية والنهاية» (١١/ ٧٦).
(¬٢) «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (١٤/ ١٧٧).
(¬٣) «العلل المتناهية» لابن الجوزي (١/ ٢٣٤).
(¬٤) نقله عنه ابن كثير في «البداية والنهاية» (١١/ ٧٦).
(¬٥) انظر «البداية والنهاية» (١١/ ٧٦ - ٧٧).
(¬٦) «سير أعلام النبلاء» (١٧/ ١٦٨).

الصفحة 174