كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 3)

وإمعانًا منه في ترسيخ هذه التُّهمة، يقول: «روايةُ كعبٍ عن التَّوراة مِن وَصفِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، كذبٌ على التَّوراة أيضًا، وبمثلِها كان يخدعُ المسلمين»! (¬١).
ثمَّ قرَّرَ أنَّ خفاءَ أمر كعبٍ على علماءِ الأمَّةِ ينبغي ألَّا يكون مانِعًا لأصحابِ الفكرِ المُستقلِّ في هذا العصرِ المتأخِّر، مِن الحكم عليه بما يظهر لهم ممَّا خَفِي على المُتقدِّمين، فيقول: « .. مِن هذا القبيل حكايةُ بعض الرُّواةِ -ككعبٍ ووهب- عن كُتب بني إسرائيل، لم يكُن يحيى بن معين وأحمد وأبو حاتم وابنه وأمثالهم يعرفون ما يَصحُّ من ذلك وما لا يصحُّ، لعدمِ اطِّلاعهم على تلك الكُتب، وعدم ظهورِ دليلٍ على كذب الرُّواة المُتقنين للكذبِ فيما يَعزونه إليها، فإذا ظَهَر لمن بعدَهم في العصرِ، أو فيما قبله، أو فيما بعده ما لم يظهر لهم مِن كذبِ اثنين أو أكثر مِن هؤلاء الرُّواة، فهل يُكابر حِسَّه ويُكذب نفسَه، ويُصدِّقهم بلسانِه كذبًا ونِفاقًا؟! أو يكتم الحقَّ عن المسلمين، لئلَّا يكون مخالفًا لمن قبله فيما ظَهَر له ولم يظهر لهم؟!» (¬٢).
والرَّد على هذا الاستدلال الثَّاني يتبيَّن من وجوه:
فأمَّا اتِّهامه لكعبٍ بالتَّقوُّل على التَّوراة، وأنَّ ما نَسَبه إليها إنَّما هو مِن كِيسه:
فأوَّلًا: لا بُدَّ أن يُعلَم أنْ ليسَ كلُّ ما يُنسَب لكعبٍ أو وهبِ بن منبِّه أو غيرهما مِن مُسلِمة أهلِ الكتابِ هو الثَّابت النَّقل عنهم، فإنَّ الوَضَّاعين استَغلُّوا شُهرتَهم، فكذَبوا عليهم لأغراضِهم، وكان الكذبُ عليهم أيسرَ مِن الكذبِ على النَّبي صلى الله عليه وسلم (¬٣).
وفي تقريرِ هذه الحقيقةِ الَّتي غَفَل عنها رشيد رضا، يقول حسين الذَّهبي: «أمَّا كعبُ الأحبار، فقد رُوي عنه ونُسِب إليه الكثير مِن الإسرائيليَّات، وبعضُ ما نُسب إليه حقٌّ واضح، وبعضه كذبٌ فاضح، الأمر الَّذي جعل بعضَ النُّقاد يعتقد
---------------
(¬١) «مجلة المنار» (٢٧/ ٥٣٩).
(¬٢) «مجلة المنار» (٢٧/ ٦١٠).
(¬٣) انظر «الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/١٣٧)، و «الحديث والمحدثون» لمحمد أبو زهو (ص/١٩١).

الصفحة 1759