كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

أفَلا تَرى أنَّ هذه المُناكفاتِ العِلميَّةِ للأخبارِ -مِمَّا ساق بعضَها الشَّاطبي- تَتكرَّر في زمانِنا هذا وزيادة، غير أنَّ أصحابَها يخدعون النَّاس بتجديدِ صِياغتِها وتجميلِ صُورَتِها في قَوالِب عَصريَّةٍ؟! وبنفسِ تلك الأساليب مِن الطَّعنِ في نَقَلَتِها ودَعاوي المُعارَضاتِ العقليَّة؟! ولِنَفسِ غَرَضِ النُّصرةِ للمَذهبِ أو الطَّائفةِ أوالتَّياراتِ الفِكريِّة؟!
إنَّ ما يقولُه هؤلاء المُعاصرون في الدِّين يكاد يرجعُ في أصولِه ومعناه إلى ما قال أولئك الأقدمون، «بفرقٍ واحدٍ فقط: أنَّ أولئك الأقدمين -زائغين كانوا أم مُلحِدين- كانوا عُلماءَ مُطَّلِعين، أكثرُهم مِمَّن أضَلَّه الله على عِلْمٍ؛ أمَّا هؤلاء المُعاصرون: فليس إلَّا الجهل والجُرأة! وامتِضاغُ ألفاظٍ يُحسنونها، يُقلِّدون في الكُفرِ، ثمَّ يَتَعالَوْن على كلِّ مَن حاوَلَ وضعَهم على الطَّريقِ القويم» (¬١).
وهذه حالُ مَن لا يفهمُ شأنَ السُّنةِ وتصاريفَ أخبارِها، مِمَّن لم يُوتَوا الآلةَ الَّتي بها يَفهَمُ ذلك؛ فإنَّما يكون البَلاء إذا ظَنَّ العادِمُ لها أنَّه أُوتِيَها، وأنَّه مِمَّن يَكمُل للحُكمِ على أسانيدِها، ويَصِحُّ منه القَضاء على مُتونِها، فجَعَل يَقولُ القولَ لو عَلِم غِبَّه لاسْتَحى منه! فأمَّا الَّذي يُحسِن بالنَّقصِ مِن نفسِه، ويَعلمُ أنَّه قد عُدِمَ عِلْمًا بالأخبارِ وحَلًّا لعَويصِها قد أوتِيَهما مَن سِواه، فهذا «نحن منه في راحةٍ، وهو رَجلٌ عاقلٌ، قد حمَاه عقلُه أن يَعدُوَ طَوْرَه، وأنْ يَتَكَلَّف ما ليس بأهلٍ له» (¬٢).
فالدَّاءُ كلُّ الدَّاء من هؤلاءِ المُتَعالِمين المُحْدَثين، الَّذين أعْدَوا بأمراض عقولِهم ما يُلامسون مِن آراء؛ بهَوى مُعدٍ يتمدَّد في الأفكارِ كتمدُّد العِلَل في الأبدان، يصير به صاحبه مُضطرِبَ المنهجِ، مُختلِطَ الطَّريقة، كثيرَ التَّناقُضِ فيما يُقرِّر؛ حتَّى يُوبِقه اضطرابُه هذا في مَهاوي الرَّدَى، وترمي به جهالاته في أوديةِ الباطِل.
---------------
(¬١) حاشية حمد شاكر على «مسند أحمد» (٦/ ٥٢٣).
(¬٢) «دلائل الإعجاز» للجرجاني (١/ ٥٤٩).

الصفحة 18