كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

وأمَّا عن المثال الثَّاني الَّذي يُورده (النَّجمي) لتعمُّد البخاريِّ حذف ما يُشعر بذمِّ عمر رضي الله عنه:
فإنَّ الَّذي دَعَا البخاريَّ إلى اختصارِ حديثِ: «ضَرَب صلى الله عليه وسلم في الخمرِ بالجريدِ والنِّعالِ، وجَلَد أبو بكر أربعين» (¬١)، هو عَينُ ما قدَّمنا به جوابَ المثالِ الأوَّل: أي رغبته في الاقتصارِ على المَرفوع منه، فإنَّه مَوضوعُ كتابِه، دون الحاجةِ إلى ما هو مَوقوفٌ مِن اجتهادِ عمر.
وعمر رضي الله عنه لم يكُ جاهلًا بسُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم في حَدِّ الخمرِ، فإنَّه قد جلَدَ أيضًا صدرًا مِن خلافتِه أربعينَ جلدةً، كما رواه البخاريُّ نفسُه في صحيحه (¬٢)!
غير أنَّ النَّاس لمَّا كثروا في دولتِه، وقرُبوا مِن القُرى، كَثُر فيهم شربُ الخمرِ، فلمَّا «جاءت الآثار مُتواترةً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُن يقصِدُ في حَدِّ الشَّاربِ إلى عددٍ مِن الضَّرب مَعلوم، حتَّى لقد بَيَّن في بعضِ ما رُوِي عنه نَفيُ ذلك، مثل ما رُوِيَ عن عليٍّ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ماتَ، ولم يَسُنَّ فيه حدًّا» (¬٣): عُلِم أنَّها راجعةٌ إلى تقديرِ الإمامِ، فلذا ارتأى الفاروقُ مشورةَ أصحابِه رضي الله عنهم في الزِّيادةِ فيها عقوبةً وزجرًا لشارِبها.
وأمَّا مثال (النَّجمي) الثَّالث على تعمُّد البخاريِّ حذف ما يُشعر بذمِّ عمر رضي الله عنه:
فدحضُ حجَّةِ اتِّهامه للبخاريِّ بالاقتصارِ على لفظ: «نُهِينا عن التَّكلُّف» (¬٤) دون تمامه الَّذي فيه جهل عمر رضي الله عنه بمعنى الأبِّ: يظهرُ في نفسِ ما قدَّمنا به
---------------
(¬١) أخرجه البخاري (ك: الحدود، باب: ما جاء في ضرب شارب الخمر، برقم: ٦٧٧٣).
(¬٢) كما جاء في حديث السائب بن يزيد في البخاري (ك: الحدود، باب: الضرب بالجريد والنعال، برقم: ٦٣٩٧).
(¬٣) «شرح معاني الآثار» للطحاوي (٣/ ١٥٥).
(¬٤) أخرجه البخاري (ك: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلُّف ما لا يعنيه، برقم: ٧٢٩٣).

الصفحة 186