كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

ستَ عشرة سنة! ليَرْحل بعدُ إلى مُحدِّثي الأمصار، تقيِيدًا للعلم عنهم بخُراسان والعراق والشَّام والحجاز ومصر وغيرها، فانكبَّ النَّاس يَسمعون منه، وليس في وجهِه شَعرة!
بدا له بعد سنين التَّحصيل والتَّحديث أن يجمع الصَّحيح من الأخبار النَّبويَّة، لكلماتٍ مُقلقاتٍ تَدفَّقنَ من صدر شيخِه ابن راهوُيَه (ت ٢٣٧ هـ)، يقول فيهنَّ لتلاميذه: «لو جَمعتُم كِتابًا مُختصرًا لصحيحِ سُنَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم .. » (¬١).
هذه الحروف اليسيرات أوقعنَ في قلبِ البخاريِّ مِن الهِمَّة ما لأجلهنَّ صَنَّف كتابَه الأعجوبة «الجامعِ المُسندِ الصَّحيحِ المُختصر من أمورِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُنَنِه وأيَّامه»، مُزيِّنًا له بأحسنِ المتون، مُتخيِّرًا له أضبطَ الرِّجالِ العدول، مَرفوعًا بذلك في مِعراجٍ لا يُلحَق؛ كيف لا، وقد وَصَله بالصِّلةِ الَّتي لا تُبلى: وهي الصَّلاة؟! فكان لا يَضعُ فيه حديثًا حتَّى يُصلِّي له ركعتين.
هذا؛ والعادة الغالبة جاريةٌ على أنَّ كلَّ مُصَنَّفٍ إذا كان الأوَّلَ في بابِه، جاء مَن بعده ليُصنِّفوا في ذاك الفنِّ، فيستدركوا ما أغفلَه الأوَّل، ويحسِّنوه، ويزيدوا عليه ما يُكمِل فائدتَه، حتَّى يكونَ أتَمَّ مِمَّا خَطَّه وأنفعَ؛ لكنَّ البخاريَّ -وإن كان أوَّلَ مَن صَنَّف الصَّحيحِ مُستقلًّا- لم يأتِ بعده مَن يُضاهيه، مع وَفرةِ مَن تَصدَّى لجمعِ الصَّحيحِ بعده.
يقول أبو الحسن النَّدوي (ت ١٤٢٠ هـ): «لو زَعَم زاعم، أو ادَّعى مُدَّعٍ، أنَّه لم يُعتَنَ بكتابٍ بَشريٍّ في أيِّ مِلَّةٍ وديانةٍ، وفي أيِّ لُغةٍ وأدبٍ، وفي أيِّ مَوضوعٍ ومَقصدٍ، وفي أيِّ عصرٍ مِن العصور، مثل ما اعتُني بالجامعِ الصَّحيحِ للإمام البخاريِّ، لما كان مُجازفةً مِن القولِ، ولا مُبالغة في الدَّعوى، ولا إسرافًا في الحُكم، ولكن لهذا القول وَجاهةٌ علميَّةٌ، ودلائلُ تاريخيَّةٌ، قائمةٌ على استعراضٍ طويلٍ دقيقٍ مُحايدٍ أمينٍ للمكتبةِ العلميَّةِ العالميَّةِ، ونتاجِ العقولِ والأقلامِ، ومَحصول القرائحِ والهِمَم، مِن فجرِ التَّاريخ إلى يومِ النَّاس هذا» (¬٢).
---------------
(¬١) «تاريخ بغداد» (٢/ ٣٢٢)، و «تهذيب الكمال» (٢٤/ ٤٤٢).
(¬٢) «نظرات على صحيح البخاري» لأبي الحسن النَّدوي (ص/٧).

الصفحة 20