كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

وأوجَبُ مِن تحقيقِ كثيرٍ من المسائل الخِلافيَّةِ الَّتي يَسوغُ فيها الاجتهادُ، وأهَمُّ مِن استغراقِ الأوقاتِ في دراسةِ جُزئيَّاتٍ ضَعيفةِ الثَّمرةِ في واقِعنا المَرير، لا يكادُ يُخرَجُ منها بجديدٍ مُبتَكَر، أو مُفيدٍ مُعتبَر، مِمَّا يَدخلُ أكثرُه في بابِ التَّرَفِ العِلميِّ.
واختيارُ المَرءِ دليلٌ على عقلِه، وأمارة على صائب نَظَرِه.
لكن الحالُ أنَّ الحروب الفكريَّة التَّي يُراد للشَّبابِ الغَيورِ خوضَها في هذا الزَّمانِ أكثرُها على مَن لا يختلِفون معهم في أصولِ مُعتَقدٍ، ولا كُلِيَّات منهجٍ؛ بل كثيرًا ما نَرى راياتِ الجهادِ بينهم تُقام على تفاريعَ لن يَزولَ الخلافُ عنها إلَّا بنزولِ المسيح عليه السلام! قد وَسَّعَ الله في أَخذ ما اطمأنَّت إليه النَّفسُ من غير عَصَبيَّةٍ تُفضي إلى ظُلمٍ أو خُصومةٍ.
أو نراهم يُطيلون في بحثِ موضوعاتٍ مَطروقةٍ حدَّ الإملال، لا تُعايش هموم زمانِنا، فيُعيدون مَسائلَها جَذَعَة، وهُم يَتغاضَون عن عشرات النَّوازل المُوَلَّدة المُهِمَّة، يتركونها تندبُ حَظَّها الذَّليل، غُفلًا عن التَّحقيقِ والتَّعليل.
ثمَّ بلَغَ الانحرافُ بسبيلِ الفكرِ والعلمِ مَداه حين صار التَّدابر بين المُتشَرِّعةِ والتَّرامي بينهم بالرُّدودِ لأجل وفاقِ شيخٍ أو خِلافِه! .. وهكذا فلْتُسنزفْ طاقاتُ شبابنا وأعمارُهم في المعركةِ الخطأ! مع العَدوِّ الخطأِ! في الوقتِ الَّذي نرى فيه عدوَّنا الحقيقيَّ الأكبرَ ينهَشُ جسَدَ أمَّتِنا مِن جميعِ أطرافِها وأطيافِها.
فلأجل ما آلمني من هذا المُصاب كلِّه: أتيتُ بهذا المَرقومِ تَأخِّيًا لتلك المَقاصِد الكُبرى، أتَغيَّا به لَبِنةً مُتواضِعةً مِن لَبِناتِ النِّزَالِ مع الباطل، وحَلْقةً تَتَّصِلُ أَسبابُها بأسبابِ تلك الصَّحائف المُباركةِ الَّتي خَطَّها أَئمَّةُ أهل السُّنَّة، باستحياءِ مَناهجِهم، وتوظيفِ كُلِّياتِ طَرائقِهم، قد وَسَمتُه بـ:
«المُعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ لأحاديثِ الصَّحيحين - دراسة نقديَّة».
رأيتُ أن أنقُدَ في طيَّاته ما يَزعُمه بعضُ أهلِ عصرنِا مِن تَوغُّلِ الكذبِ في هذين الثَّقَلَيْن، عَصَبيَّةً لهما لا تُخِلُّ بدينٍ ولا مُروءةٍ، وحَميَّةً لصاحِبيهما لا تُعَدُّ -بحمدِ الله- مِن حَميَّةِ الجاهليَّة.

الصفحة 27