كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

وإذا كان في الأنابيبِ خُلفٌ *** وَقَعَ الطَّيشُ في صُدورِ الصِّعادِ
الثالث: أَنَّ فيه تجليةً للحقِّ، وإِمعانًا في تحقيقِ إحدى كُليَّاتِ الاعتقادِ الَّتي لَهَج أهلُ السُّنة بتقريرِها: مِنْ أنَّ الرُّسل قد تأتي بِمحاراتِ العقول لا بمُحالاتِها، وتوظيفًا للأُصولِ الرَّاسخةِ المُحْكَمةِ الَّتي قَرَّرها أئمَّةُ السَّلَف الصَّالحين -رحمهم الله-، وذلك بتخريجِ آحادِ وأعيانِ النُّصوصِ المُدَعَّى مُعارضُتها للضَّرورة العقليَّةِ أو العِلميَّة أو التَّاريخيَّة، على تلك القواعدِ والأُصول، وذلك مِن الأَهميَّة بمَكان! إذْ القواعدُ لا تُتَصَوَّرُ إلَّا في الأَذهانِ، وإِعمالُها على آحادِ النُّصوص هو المَقصود.
الرابع: بيانُ أنَّ حَظَّ أَهلِ السُّنة مِن مَوارِدِ العقولِ أَتَمُّ الحظِّ وأَعلاه، وأَنَّ مَن خَالَفَهم إِنَّما يرتكزُ على جَهالاتٍ يَظُنُّها مَعقولاتٍ، وشُبهات يَحسِبُها حقائقَ جليَّاتٍ، فدعوى مُعارضة الضَّرورة العقليَّةِ للدَّلائل النَّقلية أَشْبَهُ بالظَّرْف الخالي، كوَميضِ برْقٍ يخطِفُ أَبصارَ مَن أَراد اللهُ فِتنتَه؛ حتَّى إذا قَرَّت الأُمورُ قرارَها، وعَطفتِ الفروعُ على أُصولِها؛ أَلفَيْتَها مُطَّرَحةً مع نظائِرها مِن أَصنافِ الباطل؛ لنتيقَّن أنَّ كلَّ دَعيٍّ في هذا الدِّين مُفتضَح، والله لا يأتَمِن المُفلِسين على وَحْيِه.
الخامس: المُساهمة في حلِّ مشاكِلنا الفكريَّة الواقعيَّة، لا مشاكل افتراضيَّةً بعيدٌ زمانُها أو حصولها؛ فَوَا فَرَحي حين أرى «حُجَّةً تتبختَرُ اتِّضاحا، وشُبهةً تَتَضاءلُ افتِضاحًا» (¬١)؛ على أنِّي لا أدَّعي تقصُّدي فيه لرؤوسِ أهلِ الانحرافِ المعاصرين أصالةً، بقدرِ ما أحنو إلى تحصينِ أهلِ السُّنةِ أنفسِهم، واستتابةِ ذيولِ الباطلِ الوالِغة في الوَحيِ بجَهالةٍ وتقليدٍ، ونفضِ غُبارِ الشَّكِ والتَّردُّد عن بَصائرِ الحيارَى مِن شبابِ المُسلمين.
السادس: أنَّ تَعلُّم الأفكارِ الدَّخيلة في الدِّين، والأصول الهدَّامة له، مع علمٍ يُحصِّن مِن عَدواها: واجبٌ لحمايةِ العامَّة، فإنَّ أكثرَ النَّاس حصانةً في دينِه
---------------
(¬١) «الكشَّاف» للزمخشري (١/ ٣٧).

الصفحة 29