كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

ليُعلِّق (شيخ الشَّريعة الأصفهانيُّ) على هذا النَّقلِ بقولِه: «هذه الفَتاوى إنْ دَلَّت على شيءٍ، فإنَّها تدلُّ على جهلِ البخاريِّ وسذاجَتِه، لأنَّ نشرَ الحُرمة في الرِّضاعِ فرعُ الأبوَّةِ والأمومةِ، ولا يُعقَل أن يكون حيوانٌ أبًا لإنسانٍ أو أُمًّا له» (¬١).
إنَّ هذه الحِكايةَ الَّتي شَانَ بها السَّرخسيُّ هذا الموطِنَ مِن كتابِه النَّافع ليتَه -إذْ أحَبَّ أن يَسُوقَها في كتابه لفائدةٍ غير التَّشفِّي في الخصومة! - أنْ يُورِدَها بصيغةِ التَّمريضِ لا الجَزمِ! ليُشعِرَ القَارئ بضَعفِ نَقْلِها.
ومثلُ هذه الإشاعة المُستبْعَدِ صُدورُها مِمَّن شُهد له بالفَضلِ والعِلمِ، لا ينبغي للمُنصِف رِوايتُها إلَّا بعدَ التَّثبُّتِ مِن نسبتِها؛ هذا إن رأى في رِوايتها مَصلحةٌ أصلًا! وإلَّا فما نُسِبَ إلى البخاريِّ مِن هذا الخبر لا خِطَام له ولا زِمام، ولا إسنادَ له يُنظَر فيه؛ بل هي حِكايةٌ تَصرخُ ببُطلانِها، وتَشتكي مِن سوءِ طَويَّةِ مَن اختلَقَها!
وذلك أنَّ المُقرَّر عند المُؤرِّخينَ وأهلِ التَّراجِم عدم خروج البخاريِّ مِن بَلَدِه بُخارَى إلَاّ مرَّةً واحدةً، وذلك حين نَفَاه أميرُها خالد بن أحمد الذُّهلي، بعد امتناعِ البخاريِّ مِن إتيانِه لتحديثِه بـ «صحيحِه» و «تاريخِه» (¬٢).
والغالبُ على الظَّن: أنَّ المفتريَ لهذا الهُراءِ على البخاريِّ مُتفقِّهٌ حَنَفيٌّ «أراد أن يثأرَ لأبي حَنيفة» (¬١)؛ فقد كان بين البخاريِّ وأهلِ الرَّأيِ نوعُ نُفرةٍ عِلميَّة، وكانَ كثيرَ الإلماحِ في الرَدِّ عليهم في «صَحيحِه»، في أكثرِ المَواضِع الَّتي قالَ
---------------
(¬١) «القول الصُّراح» (ص/٩١).
(¬٢) سبب ذلك: ما أبان عنه البخاريُّ لرسول الأمير حين طَلَبه بقوله: «أنا لا أذلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب النَّاس، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضر في مسجدي، أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فإنَّك سلطان، فامنعني من المجلس، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأنِّي لا أكتم العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار»، فكان سبب الوحشة بينهما هذا».
انظر تفاصيل الحادثة في «تاريخ بغداد» (٢/ ٣٤٠)، و «سير أعلام النبلاء» (١٢/ ٤٦٤ - ٤٦٥).

الصفحة 651