كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

وهذا المُستبشَع من الكلام مهما قُلنا في توجيهِ عبارتِه بما يَليق بمَقام هذين العَلَمَيْن، فإنَّ عِلَّة الوقوعِ في مثل هذا الغلط: اعتقادُهم أَنَّ ظواهرَ النُّصوصِ قد تَدلُّ على ما لا يَليقُ نِسْبتُه إلى الشَّرعِ لا بحسبِ الواقعِ! وهذا مَعلومٌ فَسادُه مِن شَريعتِنا؛ يتبيَّن بتحديدِ معنى الظَّاهرِ مِن النَّصِ الشَّرعيِّ، فنقول:
الظَّاهر إذا أُطلِق قُصَد به: ما يَسبِقُ إلى العقلِ الفِطريِّ لمِن يفهم بتلك اللُّغة المُخاطَب بها؛ وهذا الظُّهور قد يكون بمُجرِّد الوَضْعِ، وقد يكون بدلالة السِّياقِ والقرائن المُحتَفَّة به (¬١).
ولا ريبَ عند المُتحقِّقين بالوَحي الرَّاسخين في العلم: أنَّ النَّصَّ الشَّرعي لا يُمكن بحالٍ أن يكون غُفْلًا عما يُبِينُ عن مُراد الشَّارع، فإنَّ هذا مُمتنعٌ على مَن قَصَد بِشَرْعِهِ أن يكون هِدايةً للخلقِ، وعِصْمةً لهم مِن الضَّلال.
وإحرازُ هذا الظَّاهرِ الحقيقيِّ للنَّصِ، يَستلزمُ لحْظَ معهودِ العَربِ في أسلوبِ تخاطُبِهم، وذلك أنَّ الألفاظَ قوالبُ المعاني، فاللَّفظ -مثلًا- قد يكون له مَعنى مُعجَميٌّ إذا تجرَّد عن التَّركيب، وقد يكون له مَعانٍ أخرى تظهرُ حين الاستعمالِ، فلا يَستبينُ مَدلُولُه إلَّا مِن خِلالِ تَركِيبهِ.
ومَعرفةُ معاني الألفاظِ عِلمٌ برأسِه، يَفتقِرُ إلى مَعرفةٍ واسعةٍ باللُّغةِ، وأساليب العَرَبِ في الخطاب (¬٢).
ثمَّ إنَّ الظَّاهرَ الحقيقيَّ في بعضِ المَوارِد لا يُقتصَرُ في تحصيلِهِ على نصٍّ واحدٍ، بل النَّظرُ مُتَّجهٌ إلى جُملةِ الدَّلائلِ الشَّرعية؛ فإنَّ الوحيَ كالكَلِمة الواحدةِ، يصدِّقُ بعضُه بعضًا.
وفي تقرير هذا الأصل في تلقِّي معاني الوَحي، يقول الشَّاطبيُّ (ت ٧٩٠ هـ): «مَأخذُ الأدلَّةِ عند الأئمَّة الرَّاسخين، إنَّما هي على أن تُؤخَذ الشَّريعة كالصُّورة
---------------
(¬١) انظر «إحكام الفصول» للباجي (١/ ٤٨)، و «الرسالة المَدَنيَّة» لابن تيميَّة (ص/٣١).
(¬٢) وعليه اشترط الأصوليين التَّمكنَّ فيها لمن قصد الاجتهاد في استنباط الأحكام من النُّصوص، انظر «الموافقات» (٤/ ١٦٢).

الصفحة 67