كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

فالحاصِلُ: أنَّ البراهين قد قامَت على صِحَّةِ هذين الَخبرين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلزِم أن نُؤمِن بذلك على مُرادِه صلى الله عليه وسلم، ولا يُحمَل حديثُه على معنى يُخالف الواقعَ والمُشاهدَ مخالفةً تامَّة، مع أنَّ له معنى آخر يُوافقه، أو لا يخالفه على أقلِّ تقديرٍ.
فإن قبِلنا هذا المنهج في اعتبار ظواهر الأخبار، وإلَّا فلا نُكلِّف أنفسَنا فَهْمَ ما لا نقدِرُ على فهمِه! ولا نَرُدَّ ما لم نُحِط به خُبرًا، ولنحترِم عقولَ الصَّحابةِ وتابعيهم، فإنَّهم مهما أخطؤوا في الرِّوايةِ، فلن تبلُغَ بهم السَّفاهةُ والحُمق -وحاشاهم مِن ذلك- أن يَرْوُوا للنَّاس شيئًا يخالف ما يُشاهدونه ضرورةً! ورُبَّ حقيقةٍ واقعةٍ لا نفهمُها.
والمثال الثَّاني: حديث « .. إن يَمُت هذا الغُلام، قامَت ساعَتُكم».
وأعني به ما اتُّفِق عليه مِن حديثِ عائشة رضي الله عنها وغيرِها: أنَّ رجالًا مِن الأعرابِ جُفاة كانوا يأتون النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فيسألونه: متى السَّاعة؟ فكان ينظُر إلى أصغرِهم فيقول: «إن يَعِش هذا، لا يُدركه الهَرم حتَّى تقومَ عليكم ساعَتُكم» (¬١).
فقد ادَّعى جمعٌ مِن المعاصرين ظُلمًا افتراءَ الخبرِ على النَّبي صلى الله عليه وسلم، لدعوى مُخالفتِه ما هو مَعلوم بالضَّرورةِ والحِسِّ عَدمُ تحقُّقِه، ذلك أنَّهم فهموا ربطَ الخبر لقيامِ السَّاعِةِ بوفاةِ الغلام! ما يستلزم قيامَها من أمَدٍ بعيد!
تَرى هذا الفَهمِ العِوَجِ بارزًا لك في مثلِ قولِ (سامِر إسلامبولي): «المُلاحَظ مِن الحديث، أنَّ الجوابَ قد حَدَّد قيامَ السَّاعة خلالَ فترةٍ زمنيَّةٍ لا تتَجاوز أن يبلُغ الغلامُ سِنَّ الهَرم، أي ما يُقارب السِّتين عامًا، وقد مَضى على قولِ الحديث ألفٌ وأربعمائة عامٍ، ولم تَقُم السَّاعة! فهناك احتمالان: إمَّا أنَّ الغلامَ لم يبلُغ إلى الآن سِنَّ الهَرم، أو أنَّ السَّاعة قد قامَت ولم نَدرِ نحن! ونكون قد نَفذنا مِن الحساب!» (¬٢).
---------------
(¬١) أخرجه البخاري (ك: الرقائق، باب: سكرات الموت، رقم: ٦٥١١) واللفظ له، ومسلم (ك: الفتن، باب: قرب الساعة، رقم: ٢٩٥٢).
(¬٢) «تحرير العقل من النقل» (ص/٢٢٣)، وانظر «دين السلطان» لنيازي (ص/٤١١).

الصفحة 72