كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 2)
ومِن مَظاهرِ تحكُّم عبد الله بن الصِّديق في نقدِ «الصَّحيحين»: بما ندَّعيه عليه من استحكام النَّزعة المذهبيَّة: محاوَلتُه اليائسة للطَّعنَ في حديثِ مُعاوية بن الحَكم رضي الله عنه الَّذي سأل فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم الجارية عن الله بأين
(¬١) حيث حكَمَ عبد الله بشذوذِ هذا الحديث الصَّحيح وهو في «مسلم»! وبنفسِ العِلَل التَّي ساقَها سَلَفه الكَوثريُّ لإبطال الحديث؛ ثمَّ زاد عليه أشياءَ تَنقضُ المتنَ في زعمِه لم يذكرها الكوثريُّ
(¬٢).
وقد تَمادى بعبد اللهِ الخَطلُ في مثالٍ آخر أبطلَ فيه الحديثَ المُتَّفق على صِحَّته بين العلماء! مِن قولِه صلى الله عليه وسلم آخرَ عُمرهِ المُباركِ: «لَعَنَ الله اليَهود والنَّصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مَساجد» (¬٣)؛ بل أبطلَ أحاديثَ هذا البابِ كلِّها! بدعوى مُخالَفتِها لمِا يَفهمه مِن القرآن غيرَ مُبالٍ بتَكاثر طُرقِها، وتَواترِ مَعناها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم (¬٤).
هذا وهو المُقرُّ بأنَّ أكثرَ أهل العلم متقدِّمين ومتأخِّرين قد عَمِلوا به، لكن عذرُهم في ذلك عنده: أنَّهم لم يَتَفطَّنوا لِما تَفَطَّن له فيه مِن العِلَل الَّتي تَقضي بتركِ العَمل به واعتقاده.
يقول: «هذا حديثٌ ثابتٌ في الصَّحيحين وغيرهِما مِن طُرق، وقد عَمِل به كثيرٌ مِن العلماء المُتقدِّمين والمتأخِّرين، ولم يتَفَطَّنوا لمِا فيه مِن العِلَل الَّتي تقتضى
---------------
(¬١) «الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة» لعبد الله الغماري (ص/٨٧ - ٩١).
(¬٢) ستأتي مناقشتها في موضعها المُناسب من هذا البحث (٢/ ٧٧٤).
(¬٣) أخرجه البخاري (ك: الجنائز، باب: ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم، رقم: ١٣٩٠)، ومسلم (ك: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، رقم: ٥٢٩).
(¬٤) ذكره الكتَّاني في «نظم المتناثر» (ص/١٣٠ - ١٣١).