كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

فما أخبرَ به الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن ربِّه مِمَّا ثبت به النَّقلُ عنه، وتُلقِّي بالقبول عند أئمَّة هذا الشَّأن، فإنَّ الإيمانَ به واجب، سواء أدركنا معناه واستوعبنا فهمَه أو لم نفعل، لأنَّه الصَّادِق المَعصوم صلى الله عليه وسلم، وأُمَّتَه لا تجتمع على تصديقِ كَذِبٍ عنه (¬١).
المَعْلم الرَّابع: تحكيمُ أصولِ المُحكمات في فقهِ الأحاديثِ المُشتبِهات.
الواجبُ أن يُجعَل ما أنزله الله تعالى مِن الكتابِ والحكمةِ أصلًا في جميعِ الأمور (¬٢)، فحَقُّ المُحكَم أن يُرَدَّ إليه المُشتبِه في بابِه، كما يلزم رَدُّ المحتمِل إلى غير المُحتمِل، والعامِّ إلى الخاصِّ، والشَكِّ إلى اليقين، لقُوَّتها مِن جهة الدَّلالة، استنباطًا من قولِ الله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: ٧].
قال ابن كثير: «أي: أصلُه الَّذي يرجع إليه عند الاشتباه» (¬٣).
ومَنشأ القول بذلك: أنَّ الأقوى مُقدَّم عند التَّعارض شرعًا وعقلًا، فكان بهذا «المُحكَم أبَدًا أصلًا تُرَدُّ إليه الفروع، والمُتشابه هو الفَرع» (¬٤)؛ وعلى هذا الأساس ابتنى السَّلَف نظرتهم في نصوص الوَحي عند الاشتباهِ في معانيها، بأن ردُّوها إلى مُحكماتِ النُّصوص الأخرى في بابِه، توخِّيًا لتفسير تلك المُشكلات.
ينقُل ذلك عنهم ابن القيِّم فيقول: «طريقةُ الصَّحابة والتَّابعين وأئمَّة الحديث -كالشَّافعي، والإمام أحمد، ومالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، والبخاري، وإسحاق- هي: أنَّهم يَردُّون المُتشابه إلى المُحكَم، ويأخذون مِن المُحكَم ما يُفسِّر لهم المُتشابه ويُبيِّنه لهم، فتَتَّفق دلالته مع دلالة المُحكمِ، وتوافق النُّصوص بعضُها بعضًا، ويُصدِّق بعضها بعضًا، فإنَّها كلُّها مِن عند الله، وما كان مِن عند الله فلا اختلافَ فيه، ولا تَناقض، وإنمَّا الاختلافُ والتَّناقض فيما كان مِن عند غيرِه» (¬٥).
---------------
(¬١) انظر هذا المعنى في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣/ ٤١).
(¬٢) انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٧/ ٣٠٦).
(¬٣) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (٢/ ٦ - ٧).
(¬٤) «جامع أحكام القرآن» للقرطبي (٤/ ١٠).
(¬٥) «إعلام الموقعين» لابن القيم (٢/ ٢١٠).

الصفحة 89