كتاب مذكرات مالك بن نبي - العفن (اسم الجزء: 1)

بعد وصولي باريس، ذهبت إلى الإخوة بن ساعي، لم أجد سوى صالح الذي عاد من عمله الليلي كحمال في محطة ليون للقطار. لقد تعب كثيرا حتى عثر على هذا العمل الشاق. وكان غرضه هو ضمان لقمة العيش فقط، وهذا في حد ذاته كثير على مهندس من الأهالي. وهو ما كنت أدركه أكثر فأكثر. وكان صالح قد نبهني للأمر وهو يقص علي مغامراته الأخيرة سعيا وراء عمل عند شركتي رونو أو سيتروان للسيارات، لقد كان طلبه يرفض في مصلحة تشغيل العمال اليدويين البسطاء بمجرد ما كان القائمون يعلمون بصفته. وقد أعدت الكرة أنا شخصيا هذه التجربة القاسية خلال الشهرين أو الثلاثة الموالية. وقد استخلصت أنه ما من شركة صناعية كبيرة في فرنسا إلا وتلقت تعليمات دقيقة بخصوص اليد العاملة الشمال إفريقية وبالطبع عندما يخص الأمر (مثقفا) يهتم بالأفكار ويتسرب في صفوف العمال البسطاء. يجب اكتساب مخيلة واسعة أو تجربة كبيرة لإدراك هذه الأفكار الدقيقة التي هي جوهر العقلية الاستعمارية.
أه! كم أفهم الآن كيف أن هواة على شاكلة فرحات عباس لا يدركون مرامى الاستعمار الذي يتحدثون عنه. يجب أن يواجه المرء الوحش عن قرب وجها لوجه وأن يحس بقبضته الخانقة، يجب أن يفتن في مصيره وفي عمقه ليدرك ما معنى الاستعمار.
كيف السبيل لإفهام هواة (البوليتيك) الاندجين، الدقائق الأليمة لإنسان يطالع من صحيفة المساء عروض التشغيل اليدوي، وكيف يتفادى عنوة المناصب والأعمال التي تناسب كفاءته وتتماشى وذوقه

الصفحة 135