كتاب مذكرات مالك بن نبي - العفن (اسم الجزء: 1)

ذاتها تغيرت. ولن يسعفني الوقت لتسجيل هنا كل تفاصيل التحول الجذري لدى تلاميذي بيد أني فهمت من وقتها أن الفكر يضع قناعا خاصا على الوجه.
بمجرد أن يتحرك إصبع الأمي لتحديد سحر حرف، بمجرد أن يتحرك عقله لفهم فكرة، فإن مخلوقا آخر مات فيه (الإنسان الأهلي) بعض الشيء وانبعث منه إنسانا بنفس المقدار. وأنا أتذكر هنا حادثا معبرا، معبر بقوة للأسف.
فقد أردت أثناء درسي الثاني أو الثالث أن أختبر أحد التلاميذ، وكان شابا اسمه جوزي وأصله من مدينة عزازقة.
- كيف وجدت الدرس يا جوزي؟ أجابني الشاب القبائلي بغتة:
- يا شيخ إننا نقتل الوقت هنا بصورة جيدة.
هذه هي الاستعدادات النفسية التي قدم بها تلاميذي في البداية. خاب أملي ربما، غير أني أدركت أن هذه النفسية، هذه الذهنية (الأهلية) هي التي يجب أن أزعزعها.
وبعد خمسة أشهر، تحسن تلميذي جوزي، فقد أصبح تدريجيا يأتي ليس لقتل الوقت ولكن لاستعماله بفعالية، بصورة لافتة أكثر مما تطيقه صحته العقلية. فذات مساء، جاء جوزي إلى الدرس مع كل مؤشرات الخلل.
نعم! كان جوزي مجنونا. فذهنه الذي لم يفكر مطلقا اختل عند أول تفكير. وتعاونا أنا وزملاؤه على إجلائه.

الصفحة 164