كتاب مذكرات مالك بن نبي - العفن (اسم الجزء: 1)

فيما بعد في كتابـ (شروط النهضة). غير أني أردت أن أجسد مفهوم (استعمال) الوقت هذا في إنجاز من شأنه أن يشرح أهميته من خلال مقارنة الفعل والكلمة.
فمن ضمن المقابر الموجودة بتبسة، كانت مقبرة المسلمين أكثرها إهمالا دون سياج ولا ممرات: كانت عبارة عن مغرغة للموت عوض أن تكون مكانا للراحة الأبدية. ولاحظت، من جهة أخرى، أن العديد من شباب تبسة يحدوهم حماس وطني فياض فيستهلكونه في الكلام في المقاهي. فارتأيت أنه من المفيد استعمال هذا الحماس فيصبح تدريبا نفسيا وإنجازا ميدانيا في آن واحد. فاقترحت على بعض هؤلاء الشبان تخصيص (نصف ساعة) من كل جمعة للاعتناء بالمقبرة ووعدتهم بالسعي لإيجاد المال والبنائين لبناء سور إن هم جمعوا كل الحجارة المنتشرة داخل المقبرة. تبخر (الحماس الوطني) بمجرد أن أصبحت القضية عملا عوض مجرد كلام. فأدركت أن الناس في الجزائر تحب أن تتكلم عن (الوطن) ولا تحب خدمته.
هذه بإيجاز شديد وبصورة ملخصة الذكريات التي حملتها معي من بلادي وأنا أغادرها متجها نحو فرنسا.
في مثل هذه الظروف غادرت الجزائر في منتصف سبتمبر 1939، بعد أن قمت بحل العديد من المشاكل الإدارية والمالية التي فرضها علي هذا السفر.
عندما أبحرت السفينة من ميناء عنابة، كنت مستندا على متراس ظهر السفينة، تراب الجزائر ينمحي أمام عيني تدريجيا في الأفق.

الصفحة 183