كتاب مذكرات شاهد للقرن

في (الشارع الوطني National) بين المدرسة وثانوية البنات المقابلة كانت الحركة خفيفة والهدوء مسيطراً حولي. وقد سمح لي ذلك بقراءة صحيفتي، وبعبارة أدق المقال الذي يروي أحداث القاهرة. فما إن فرغت من القراءة حتى بقيت ساهماً دون شيء محدد في ذهني، وفجأة استعدت فكري، ولو كان في تلك اللحظه بقربي شخص يراقبني لأدرك في نظراتي وميضاً غير مألوف.
كان الذي استبدّ بي شعور جديد، شعور لم يفارقني مدى الحياة قد اعتمل بحدة في وجودي: (كنت وطنياً J'était nationaliste)، ومنذ تلك اللحظة أصبحت قارئاً مثابراً لسائر الصحف التي أشتريها من كشك المرحوم جدي.
ثم اخترت بين قراءاتي السياسية صحيفة شيوعية (الإنسانية L'Humanité) كانت تروي أكثر ظمئي الوطني. فمقالات (كاشان Cachin) و (فايان كوتوريه Vaillant Couturier) تثير في نفسي ثورة الغضب أو تصب في قلبي أطيب العزاء. قرأت أيضاً (الكفاح الاجماعي La lutte sociale) التي يصدرها (فيكتور سبولمان Victor Spulmun) وكانت تأتينا إلى الجزائر بصورة متقطعة.
لقد اتخذت أفكاري منعطفاً جديداً، فالأشياء قد أصبح لها معنى جديد في نفسي، وحينما كنت أذهب إلى خالتي بهية كان يخالجني شعور بالضيق، وحينما كنت أتنزه مع صديقي (شوات Chaouatt) الذي كان والده مترجماً في مراكش، كان ثمة عمليات غريبة تعتمل في نفسي في تلك الشوارع الأوربية في قسنطينة، فقد كانت الدور المترفة تفضح أمام ناظري بؤس خالتي بهية.
كنت أختار من تلك المنازل المترفة المنزل الذي سوف أسكنه في المستقبل، وكان صديقي يفعل ما أفعل فيختار منها لنفسه أيضاً.
بالإجمال لم تكن فكرة (الممتلكات الخالية Bien vacant) فكرة جديدة، فقد راودت في ذلك الزمن روح شابين مدرسيين، وهما في طريقهما ليتناولا كوباً

الصفحة 89