كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

كونُه يتشابهُ من جهةٍ، ويختلفُ من جهةٍ، هذا دليلٌ على كمالِ قدرةِ مَنْ خَلَقَهُ، وأن خالقَه ليس بطبيعةٍ؛ لأن الطبيعةَ عند مَنْ يَزْعُمُونَهَا معنًى واحدٌ، جوهرٌ لا يَتَقَسَّمُ، ولا يقبلُ الانقسامَ. يستحيلُ أن تؤثرَ الطبيعةُ في مطبوعين مختلفين. فالنارُ لَوْ فَرَضْنَا - كما يقولونَ - «إنها بطبيعتِها تَحْرِقُ» فلا يمكنُ أن يكونَ من طبيعتِها الإبرادُ، وكذلك السكينُ، وقلنا: «طبيعتُها القطعُ» فلَا يكونُ من طبيعتِها الوصلُ، وهكذا. فلا يمكن أن تكونَ الطبيعةُ الواحدةُ تنتجُ أشياءَ مختلفةً.
واختلافُ هذه الأشياءِ دليلٌ على أن فاعلَ ذلك صانعٌ مختارٌ يفعلُ ما يشاءُ، كما نَبَّهَنَا على ذلك في أولِ سورةِ الرعدِ؛ لأن الله (جل وعلا) في أولِ سورةِ الرعدِ لَمَّا بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه، نَبَّهَ خلقَه أن ما يزعمُه الكفرةُ الفجرةُ الكلابُ أبناءُ الكلابِ، مِنْ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ (جل وعلا) في هذا الكونِ من غرائبِه وعجائبِه، أنه فِعْلُ طَبِيعَةٍ، أَلْقَمَهُمُ الحجرَ في أولِ سورةِ الرعدِ، ذلك أن اللَّهَ لَمَّا قال: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} ثم نَوَّهَ بشأنِ هذا القرآنِ: {وَالَّذِيَ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١)} ذَكَرَ صفاتِ خالقِ هذا الكونِ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)} ثم قال - هو مَحَلُّ الشاهدِ-: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ} وفي قراءةٍ أُخْرَى (¬١): {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} وفي
---------------
(¬١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٥١.

الصفحة 30