كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 3)

فكل هذه المصادر مصادر نابت عن أفعالها، ففيها معنى الأمر. تعني: اصبروا يا بني عبد الدار، واضربوا بكل بتَّار. هذه هي صيغ الأمر.
وقد دل القرآن والسنة ولغة العرب على أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب، فمن الدليل على ذلك: أن الله لما قال للملائكة: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} [البقرة: آية ٣٤] كانت {اسْجُدُواْ} صيغة (افعل) فلما امتنع إبليس وبَّخه وحكم عليه بالعصيان، وقال: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} موبِّخاً له، فَدَلَّ على أن عدم امتثال صيغة الأمر أنه معصية، ويؤيِّدُ ذلك أن نَبِيَّ الله موسى قال لأخيه هارون لما أراد السفَر إلى الميقات، قال لأخيه هارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: الآية ١٤٢] وهذه صيغة أمر، فلما ظن أنه لم يتبعها قال: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)} [طه: آية ٩٣] فصرح بأن مخالفة صيغة (افعل) معصية، ومن الأدلة على ذلك أن الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)} [النور: آية ٦٣]، وقد قال جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: آية ٣٦] وفي القراءة الأخرى: {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬١)، ومن قضائه للأمر هو أن يقول: (افعل كذا) فدلت آية الأحزاب هذه على أن أمره تعالى قاطع للاختيار، موجب للامتثال، والأدلة في هذا كثيرة.
ووجه دلالة اللغة العربية على أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب: أن السيد المالك لعبد لو قال لعبده: (اسقني ماءً) فامتنع
---------------
(¬١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٥٨.

الصفحة 22