كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 4)

والآخرية قال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (١٧)} [المرسلات: الآيتان ١٦، ١٧] ووصف الخلائق بالبقاء فقال: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: آية ٩٦] فوصف ما عند الله من بعض مخلوقاته بأنه باق وقال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (٧٧)} [الصافات: آية ٧٧] ووصف بعض المخلوقين بالقِدَم في قوله: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: آية ٩٥] {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: آية ٣٩].
واعلموا أن جماعة من السلف أنكروا وصف الله بالقِدَم وقالوا: إنه من مبتدعات المتكلمين، ولا يجوز وصف الله بالقِدَم؛ لأن القِدَم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو تقادم زمن الشيء قديمًا مع كونه مسبوقًا بعدم. وبعض العلماء خالف في هذا وقال: عُرف في الشرع إطلاق القِدم على ما يُطْلِقُهُ عليه المتكلمون؛ لأن القِدَم في اصطلاح المتكلمين هو عبارة عن كل ما لا أَوَّلَ له بشرط أن يكون وجوديًّا، فالقِدَم عند المتكلمين أخَفُّ ممَّا يسمونه (الأزل)؛ لأن الأزل في اصطلاحهم هو كل شيء لا أَوَّلَ له، سواء كان وجوديًّا كذات الله -جل وعلا- متصفة بصفات الكمال والجلال؛ لأن وجود ذاته الكريمة متصفة بصفاتها الكريمة لا أول له، فهي عندهم يُقال له: (أَزَلِيٌّ) ويُقال له: (قديم) في اصطلاحهم، أما المعدوم فلا يُقَالُ له قَدِيمٌ عِنْدَهُم، وإنما يُقال له: أَزَلِيٌّ، فَكُلُّ مَا لَا أَوَّلَ لَهُ من الأعدام فهو أَزَلِيٌّ عندهم، ولا يُسمى قديمًا كأعدام ما سوى الله، فنحن هؤلاء الموجودون هنا قبل أن نولد كنا معدومين، وَعَدَمُنَا السَّابِقُ لا أوَّلَ لَهُ، فأعدامنا أزَلِيَّةٌ؛ لأنها لا أول لها، ولا نقول: إنها قديمة.

الصفحة 22