كتاب نقد الشعر
فعدى هذا الشاعر عن الهجاء الذي عيرتهم به هذه المعيرة، واحتج فيه بما دل على أنه غير صائر، ثم وصف بعد ذلك نفسه وقومه بالأوصاف التي هي لائقة بالمدح، وفي ذكرنا إياها في هذا الموضع منفعة في تعليم الهجاء الجاري على الصواب، فقال:
وإنا لقوم لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث مات قتيل
لن اجبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
فأتى في هذه الأبيات بالمدح من جهة الشجاعة والبأس والعز، ثم قال:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول
سلى إن جهلت الناس عنا وعنهم ... وليس سواء عالم وجهول
فأتى في هذه الأبيات بالوصف من جهة العقل والرأي والفهم، ثم قال:
فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل
فأتى بالمدح من جهة الجود، وهو أحد أقسام العدل، كما بينا، ثم قال:
صفونا فلم نكدر وأخلص سرنا ... إناث أطابت حملنا وفحول
فأتى بالمدح من جهة العفة، إذ كان في ذكره طيب الحمل دليل على ذلك؛ أفلا ترى أن هذا الشاعر، لما علم أن المعيرة لم تأت بما يضرهم، احتج في ذلك بما يزيل الظنة عنهم، ثم عمد إلى الفضائل، التي هي فضائل بالحقيقة، فأوجبها لهم، فكأنه أرى بهذا الفعل أن ما قالته المعيرة غير جار على الصواب.
وأنشدنا أحمد بن يحيى في هذا المعنى:
وإني لا أخزى إذا قيل مملق ... سخي وأخزى أن يقال بخيل
وبلغني أن ابن الزبير لما دخل الشام ناداه أهلها: يا ابن ذات النطاقين، فقال لابن أبي عتيق:
وتلك شكاة ظاهر عنك عاراها
فأبان بهذا القول أنه لا يلزمه ما يقال في أمه.
وإذا تؤمل ما ذكرته في هذا الباب، لم يبعد الوقوف على عيب الهجاء كيف يتعرف.
الصفحة 74
93