كتاب النبأ العظيم

خطوة واحدة، وفي غير ما جلبة ولا طنطنة.
ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوي الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابًا وتفنيدًا، وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضًا مزمنًا، وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم؛ وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها، في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
1- تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة؛ إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه؛ وهل الذي يكذب من يُصدقك يبقى مصدِّقًا لك؟!
غير أن هذا المعنى إنما أخذ استنباطًا من أقوالهم، وإلزامًا لهم بمآل مذهبهم، ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم. فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد
وهكذا كانت كلمة {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} مغلاقًا لما قبلها مفتاحًا لما بعدها، وكانت آخر درجة في سلم الغرض الأول هي أول درجة في سلم الغرض الثاني. فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام! وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان، تدريجًا له على مدارجها، وتنزيلًا له على قدر حاجتها وفي وقت تلك الحاجة! فما هو إلا أن آنس تطلُّع النفس واستشرافها من تلك الكلمة إلى غاية، إذا هو قد استوى بها إلى تلك الغاية ووقفها عليها تامة كاملة.
2- وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلي وأعرض عن ذكر الكاسب

الصفحة 157