كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (اسم الجزء: 19)

أي مطلقاً في هذا وغيره، ولذلك أظهر في موضع الإضمار {لا يغني} إغناءً مبتدئاً {من الحق} أي الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله، والظن إنما يعبر به في العمليات لا العلميات ولا سيما الأصولية {شيئاً} من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدي أبداً إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين، فإن المقصود بتحقق الأمر على ما هو عليه في الواقع، وأما الفروع فإن المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه، وهو رده إلى الأصول المستنبط منها لعجز الإنسان على القطع في جميع الفروع، تنبيهاً على عجزه وافتقاره إلى الله ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوته ليكشف له من الأحقاف.
ولما كانوا بعد مجيء الهدى قد أصبروا على الهوى، وكانت هذه السورة في أوائل ما نزل، والمؤمنون قليل، سبب عن ذلك: {فأعرض عن من تولى *} أي كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة من ولى {عن ذكرنا} أي ذكره إيانا، فأعرض عن الذكر الذي أنزلناه فلم ينله ولم يتدبر معانيه فلا يلتفت إلى شيء علمه فإنه مطموس على قلبه ولو كان ذهنه أرق من الشعر فإنه لا يؤول إلا إلى شر {ولا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] فإنه ما عليك إلا البلاغ.

الصفحة 64