كتاب نهاية المطلب في دراية المذهب (اسم الجزء: 13)

ارتكاب (1) الخلافيين، وقد حكيت هذا في كتابٍ واستشهدت بمسألةٍ من الخلع، ولم أتثبت فيها على ما ينبغي.
8865 - وهذا أوان التفصيل على التحصيل الذي عليه التعويل. فنقول: إذا كان البادىء الزوج، فقال لامرأتيه: أنتما طالقان بألف. فإذا قبلت إحداهما، ولم تقبل الثانية، لم يقع شيء، كما لو قال مالك العبد: بعت عبدي هذا منكما بألف درهم، فقبل أحدهما دون الثاني، لم يصح. والخلع أولى بألا يصحَّ ببعض القبول فيه، لما فيه من تضمين التعليق.
وإن صح في البيع تصحيحُ القبول من أحدهما دون الثاني، لم يمتنع خروج مثله في
__________
(1) ارتكاب الخلافيين: تكرر هذا اللفظ (ارتكب) بأكثر من صيغة من صيغ الاشتقاق، في مواضع كثيرة على طول هذا الكتاب، ومنها على سبيل المثال قوله في خطبة الكتاب: "وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجهٌ غريب منقاس ذكرت ندوره وانقياسه، وإن انضم إلى ندوره ضعف القياس نبهت عليه ... وإن ذكر أئمة الخلاف وجهاً مرتكباً أنبه عليه". وحين يعرض للاجتهاد في القبلة، يعقب على أحد الوجوه في صورة من الصور قائلاً: "وهذا إن ارتكبه مرتكب، ففيه بعدٌ ظاهر" وفي باب آخر يعقب على أحد الوجوه قائلاً: "ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلاف" وفي كتاب النكاح يعقب على إحدى المسائل قائلاً: "ولما نظر القفال إلى ما ذكرناه، لم يجد فرقاً، وارتكب طرد القياس في المسالتين اللتين ذكرهما صاحب التقريب، وقال أولاً: إنه حكى فيهما نص الشافعي، وقد تتبعت النصوص، فلم أجد ما حكاه من المسألتين منصوصاً ... ".
هذه نماذج لورود هذا اللفظ، وصورٌ من اشتقاقاته، ولقد تبادر إلى الذهن أن هذا (الارتكاب) أحد مصطلحات علم الجدل والمناظرة، فبحثت واستقصيت جهدي في كل مظانه: في الكافية في الجدل لإمام الحرمين، المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي، واصطلاحات المتكلمين والفلاسفة للآمدي، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وتعريفات الجرجاني، وكليات أبي البقاء، ثم غريب ألفاظ الشافعي، ثم معاجم اللغة، ثم معجم الألفاظ التي شرحها ابن خلكان في الوفيات.
ويبدو أن المراد بالارتكاب هنا التعسف وركوب الطريق غير السوي، يظهر ذلك من سياق العبارات التي أمامنا، والذي يرشح هذا التفسير أن هذا (الارتكاب) يكون عادة من أئمة الخلاف، عند نصرة كل صاحب رأي لرأيه، فيعتسف أيّ طريق، انتصاراً لرأيه، وفراراً من إلزامات خصمه. والله أعلم.

الصفحة 445