كتاب نصب الراية (اسم الجزء: 1)

الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ أَعْلَامِ الْمَسَائِلِ وَمُعْضِلَاتِ الْفِقْهِ، وَمِنْ أَكْثَرِهَا دَوَرَانًا فِي الْمُنَاظَرَةِ وَجَوَلَانًا فِي الْمُصَنَّفَاتِ، وَالْبُخَارِيُّ كَثِيرُ التَّتَبُّعِ لِمَا يَرُدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ السُّنَّةِ، فَيَذْكُرُ الْحَدِيثَ، ثُمَّ يُعَرِّضُ بِذِكْرِهِ، فَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كَذَا وَكَذَا، يُشِيرُ بِبَعْضِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَيُشَنِّعُ لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يُخْلِي كِتَابَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَهُوَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ: بَابُ الصَّلَاةِ مِنْ الْإِيمَانِ، ثُمَّ يَسُوقُ أَحَادِيثَ الْبَابِ، وَيَقْصِدُ الرَّدَّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ؟ قَوْلَهُ: إنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ، مَعَ غُمُوضِ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَمَسْأَلَةُ الْجَهْرِ يَعْرِفُهَا عَوَامُّ النَّاسِ وَرُعَاعُهُمْ، هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ، بَلْ يَسْتَحِيلُ، وَأَنَا أَحْلِفُ بِاَللَّهِ، وَبِاَللَّهِ لَوْ اطَّلَعَ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَدِيثٍ مِنْهَا مُوَافِقٍ بِشَرْطِهِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ شَرْطِهِ لَمْ يُخْلِ مِنْهُ كِتَابَهُ، وَلَا كَذَلِكَ مُسْلِمٌ رحمه الله، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَهَذَا أَبُو دَاوُد. وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ مَاجَهْ. مَعَ اشْتِمَالِ كُتُبِهِمْ عَلَى الْأَحَادِيثِ السَّقِيمَةِ، وَالْأَسَانِيدِ الضَّعِيفَةِ لَمْ يُخَرِّجُوا مِنْهَا شَيْئًا، فَلَوْلَا أَنَّهَا عِنْدَهُمْ وَاهِيَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا تَرَكُوهَا، وَقَدْ تَفَرَّدَ النَّسَائِيّ مِنْهَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ أَقْوَى مَا فِيهَا عِنْدَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ، وَالْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْهَا: حَدِيثَ عَلِيٍّ, وَمُعَاوِيَةَ، وَقَدْ عُرِفَ تَسَاهُلُهُ، وَبَاقِيهَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي سُنَنِهِ التي مَجْمَعُ الْأَحَادِيثِ الْمَعْلُولَةِ، وَمَنْبَعُ الأحاديث الغريبة، وقد بَيَّنَّاهَا حَدِيثًا حَدِيثًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآثَارُ فِي ذَلِكَ: - فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَالطَّحَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ رضي الله عنه، فَجَهَرَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَكَانَ أَبِي1 يَجْهَرُ بِهَا، انْتَهَى. وَهَذَا الْأَثَرُ مُخَالِفٌ لِلصَّحِيحِ الثَّابِتِ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْهَرُ، كَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ، وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَيْضًا عَدَمَ الْجَهْرِ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ2 بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ. وَعَلِيٌّ لَا يَجْهَرَانِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا عَنْ عمر، فيحمل أي أَنَّهُ فَعَلَهُ مَرَّةً، أَوْ بَعْضَ أَحْيَانٍ، لِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ. وَعُمَرَ. وَعُثْمَانَ. وَعَلِيًّا كَانُوا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. انْتَهَى. وَهَذَا بَاطِلٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ الْوَقَّاصِيُّ، أَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْت أَبِي عَنْهُ، فَقَالَ: كَذَّابٌ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي عَنْ الثِّقَاتِ الْأَشْيَاءَ الْمَوْضُوعَاتِ لَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.
__________
1 وكان أبي أي قال سعيد: وكان أبي الخ. كما في الدراية.
2 ص 120، وقال في الزوائد ص 108-ج 2: رواه الطبراني في الكبير وفيه: أبو سعد البقال، وهو ثقة، مدلس، اهـ.

الصفحة 356