كتاب عقلاء المجانين للضراب

17- نا أحمد بن مروان المالكي، نا محمد بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، نا مصعب بن عبد الله، عن ابن أبي فديك، أنه قال:
كان ها هنا بالمدينة سنة سبعٍ وثمانيين رجلٌ يكنى أبا نصرٍ، من جهينة، ذاهب العقل، في غير ما الناس فيه، لا يتكلم في شيءٍ من أمر الدنيا، وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سئل عن الشيء أجاب جواباً معجباً حسناً.
قال ابن أبي فديك: فأتيته يوماً وهو في مؤخر المسجد مع أهل الصفة، منكسٌ رأسه، واضعٌ وجهه بين ركبتيه، فجلست إلى جنبه، فحركته فانتبه، فأعطيته شيئاً كان معي، فأخذه وقال: قد صادف منا حاجةً؛ فقلت له: يا أبا نصرٍ، ما الشرف؟ قال: حمل ما ناب العشيرة أدناها وأقصاها، والقبول من محسنها، والتجاوز عن مسيئها.
قلت: فما المروءة؟ قال: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وتوقي الأدناس، واجتناب المعاصي صغيرها وكبيرها.
قلت: فما السخاء؟ قال: جهد المقل.
قلت: فما البخل؟ فقال: أفً؛ وحول وجهه عني، فقلت له: لم تجبني بشيءٍ، قال: بلى، قد أجبتك.
قال ابن أبي فديك: وقدم هارون أمير المؤمنين، فأحب أن ينظر إليه، فأخلي له مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعلى منبره، وفي موضع جبريل عليه السلام، ثم قال: قفوا بي على أهل الصفة حتى أنظر إليه -يعني أبا نصر-؛ فلما أتاهم , حرك هارون الرشيد أبا نصرٍ بيده، فرفع رأسه وهارون واقفٌ، فقيل له: يا أبا نصرٍ، هذا أمير المؤمنين واقفٌ عليك، فرفع رأسه إليه، فقال له: أيها -[31]- الرجل، إنه ليس بين الله عز وجل وأمة نبيه صلى الله عليه وسلم ورعيتك، وبين الله عز وجل خلقٌ غيرك، وإن الله عز وجل سائلك، فأعد للمسألة جواباً، فقد قال عمر بن الخطاب رحمه الله: لو ضاعت سخلةٌ على شاطئ الفرات، لخاف عمر أن يسأله الله عز وجل عنها.
فبكى هارون وقال له: يا أبا نصرٍ، إن رعيتي ودهري غير رعية عمر ودهره؛ فقال له أبو نصرٍ: هذا -والله- غير مغنٍ عنك، فانظر لنفسك، فإنك وعمر لتسألان عما خولكما الله.
ثم دعا هارون بصرةٍ فيها مئة دينارٍ، فقال: ادفعوها إلى أبي نصرٍ. فقال: وهل أنا إلا رجلٌ من أهل الصفة؟ ادفعوها إلى فلانٍ يفرقها بينهم، ويجعلني رجلاً منهم.

الصفحة 30