كتاب أصول الدعوة

مثال واحد فقط؛ ليظهر لنا مدى تمسُّك التشريع الإسلامي بالمعاني الأخلاقية في أدقِّ العلاقات وأخطرها، ولو ترتَّب على هذا التمسك تضحيات جسيمة. يقرر الفقهاء المسلمون أنَّ الأجنبي -غير المسلم- إذا دخل إقليم الدولة الإسلامية بأمانٍ ولمدة معينة، لا يجوز تسليمه إلى دولته إذا طلبته خلال هذه المدة، ولو على سبيل المفاداة بأسير مسلم عندها، ويبقى المنع من تسليمه قائمًا حتى لو هدَّدت دولته الدولة الإسلامية بإعلان الحرب عليها إذا لم تسلمها أياه، ويعلل الفقهاء هذا الحكم بأنَّ الأجنبي دخل إقليم الدولة الإسلامية بأمانٍ منها، فعلى الدولة الإسلامية أن تفي بعهدها له، فيبقى آمنًا لا يمسه سوء، وتسليمه بدون رضاه غدر منها بعهدها له، لا رخصة فيه، فلا يجوز في شرع الإسلام، ويبقى المنع من تسليمه وعدم إلحاق أيِّ ضرر به حتى لو قتلت دولته جميع رعايا الدولة الإسلامية المقيمين في أرضها؛ لأنَّ فعلها ظلم ولا مقابلة بالظلم، هكذا يقول الفقهاء، فأي مستوى رفيع بلغه التشريع الإسلامي في التزامه بالمعاني الأخلاقية في أدق الظروف وأحرج الأوقات، مما لا نجد له نظيرًا أبدًا في أي تشريع وضعي آخر، لا في القديم ولا في الجديد، ولا عجب من ذلك، فالشريعة الإسلامية من عند الله، وما يأتي من الله هو الحق الخالص والعدل الخالص.
71- الناحية الثانية: جهة الحِلّ والحرمة في الفعل نفسه: فإنَّ الفعل قد يكون صحيحًا في ظاهره لاستيفائه شروط الصحة المطلوبة، ولكنه يعتبر حرامًا لمخالفة حقيقته الباطنة، أو قصد صاحبه لما يأمر به الإسلام. إنَّ هذه الصفة للشيء في الحِلِّ والحرمة تبقى لاصقة بالفعل وإن صدر بها حكم قضائي يقضي بخلاف ذلك، الذي يدَّعي ديْنًا على آخر ظلمًا ويثبت ذلك أمام المحكمة، فإنَّ حكم المحكمة أنَّه محق في مطالبته، أو يستحق الدَّيْن من صاحبه، بل يبقى الأمر عند الله تعالى على حقيقته، وهو أنَّ هذا المدعي ارتكب حرامًا وأكل سحتًا، وهذا لا يجوز، في شرع الله لا ينفعه حكم الحاكم بما ادَّعى لنفسه ظلمًا؛ لأنَّ الحاكم يحكم حسب الظاهر، والله يتولَّى السرائر؛ ولأنَّ مناط الثواب والعقاب في الآخرة على حقائق الأفعال ونيات الإنسان، وما ارتكبه من حلال أو حرام، والأصل في تعلق الحقوق وثبوت الآثار الشرعية على حقيقة الفعل وكونه حلالًا جائزًا ظاهرًا وباطنًا، ولكن لما كان الباطن أمرًا خفيًّا يعجز الإنسان عن إدراكه، أو يتعذّر عليه، ولأجل

الصفحة 55