كتاب رحلة الحج إلى بيت الله الحرام

كل واحدٍ منها على حدة، كقول البحتري:
وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب
استعار "خمس سحائب" لأنامل الممدوح، والجامع أنها في جودها وعموم عطاياها كالسحائب، ولما استعار السحائب الخمس لأنامل الممدوح ذكر أن هناك صاعقة، وبين أنها من نصل سيفه، ثم قال: "على أرؤس الأقران" ثم قال: "خمس" فذكر العدد الذي هو عدد أصابع اليد. فظهر من مجموع ذلك أنه أراد بالسحائب الأنامل.
واعلم أن ما ذكره بعض البيانيين من أنَّ الاستعارة من حيث هي مجازٌ عقليٌّ لا مجاز لغوي أصلًا مردودٌ. وسنبين لك وجهه عند القائل به، ثم نبين وجه رده.
اعلم أن القائل بأن الاستعارة مجازٌ عقليٌّ يقول: إن التصرف فيها إنما وقع في أمرٍ عقليٍّ، لا لغويٍّ؛ لأنها لما لم تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، بجعل الرجل الشجاع مثلًا فردًا من أفراد الأسد، كان استعمال الكلمة المسماة بالاستعارة في المشبه استعمالًا فيما وضعت له، وإنما قلنا: إنها لم تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، لأنها لو لم تكن كذلك لما كانت استعارة، لأن مجرد نقل الاسم لو كان استعارة لكانت الأعلام المنقولة استعارة، ولما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة، إذ لا مبالغة في إطلاق الاسم المجرد عاريًا من معناه، ولما صح أن يقال لمن قال: "رأيت أسدًا" وأراد به زيدًا: أنه جعله أسدًا. كما لا يقال لمن سمى ولده أسدًا: أنه جعله أسدًا؛ إذ لا يقال: جعله أميرًا، إلا وقد أثبت فيه

الصفحة 261