كتاب رياضة النفس

فمحال أن يعتقد القلب هذا الفرح حتى يدوم له ذلك، وتزول عنه أفراح النفس، ثم يصير في فرحه بالله عز وجل حزيناً، لأنه محبوس عنه برمق الحياة في دار الدنيا، مشتاق إلى ربه عز وجل، قد أنس به، واشتاق إلى لقائه، واستوحش من الدنيا وأهلها، وهمته ذكر الله، وعبودية شهوته، وموته راحته ويوم عيده.
وتحقيق ما وصفنا من ضرر فرح النفس، أن الله عز وجل حرّم المعازف والخمر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وما نطق به الوحي في شأن الخمر، وذلك أن الله عز وجل لما خلق الفرح، وجعل له بابا، فلما خلق الجنة، خرجت الأغراس
من باب الرحمة، وخرج غرس العنب من باب الفرح، فلذلك أوّل ما أكل آدم صلى الله عليه وسلم حين دخلها العنب، فامتلأ فرحاً.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه سئل: (ما أول ما يأكل أهل الحنة من الجنة؟ قال: العنب): وأول ما أكل آدم العنب، فامتلأ فرحاً، ووضع من الفرح في تلك النار التي فيها الزينة بباب النار التي سميت شهوات، فجعل ذلك الفرح حظ إبليس، حتى يأخذه فيضعه في الأشياء التي يغوي الآدميين بها، فلما أضل إبليس المشركين بذلك الفرح، دخل الأشجار وكل معبود من دون الله عز وجل، فصوّت منها بذلك الفرح، فكل من يتبع صوته، سبى ذلك الفرح قلبه، حتى يجيبه إلى الشرك وإلى عبادته، فهو يرى أنه يعبد الشجرة والوثن، وإنما يعبد الطاغوت، وإبليس طغى حتى بلع غاية الطغيان، فقيل طاغوت، وذلك قول الله عز وجل: (كلّ حزب بما لديهم فرحون). فذلك الفرح لكل حزب من الذي أعطى إبليس، حتى أورده على قلوبهم بصوته، وذلك قوله عز وجل: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك). وصوته مع ذلك الفرح، ولولا ذلك ما أجابوه، فهم فرحون بأديانهم، وإنما يفرحون بالله عز وجل، ولكن غير مقبول منهم، وهم يحسبون أنهم مهتدون بذلك الفرح، لأنهم تناولوه من إبليس، لا من هداية الله عز وجل ومعرفته، وإنما وصل إلى غواية آدم صلى الله عيه وسلم، بما استفرحوا من الفرح.

الصفحة 64