كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)

مدحا لهم ليبين سبحانه أنهم الذين أهتدوا وأنتفعوا به كما قال تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها مع عموم إنذاره صلى الله تعالى عليه وسلم وأما غيرهم فلا وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وأما القول بأن التقدير هدى للمتقين والكافرين فحذف لدلالة المتقين على حد سرابيل تقيكم الحر فمما لا يلتفت إليه هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق ف الم أشارت إلى ما أشارت و ذلك الكتاب قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابا في جنسه أي باب التحدي والهداية و لا ريب فيه كالتأكيد لأحد الركنين و هدى للمتقين كالتأكيد للركن الآخر
وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه وقيل : بالحمل على الإستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزا فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا ومعنى وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى الإختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب ثم لما طولب بالدليل على ذلك أستدل بكونه هدى للمتقين لظهور إشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعائد عقله وحسه وقد يقال الإعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته وإرشاده فإن نظر إلى إتحاد المعاني بحسب المال كان الثاني مقررا للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لإستلزامه ما يليه وكونه في قوته بجعله منزلا منه منزلة بدل الإشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الإتصال بين هذه الجمل وفيها أيضا من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يفخى جلالة قدره على من مر ما ذكرناه على فكره
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون 3 صفة للمتقين قبل فإن أريد بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها فمادحة وفي شرح المفتاح الشريفي إن حمل المتقي على معناه الشرعي أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيآت فإن كان المخاطب جاهلا بذلك المعنى كان الوصف كاشفا وإن كان عالما كان مادحا وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصا وأستظهر كون الموصول مفصولا قصد الأخبار عنه بما بعده إثباته لما قبله وإن فهم ضمنا فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في الإرتباط والإستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى والوقف على المتقين تام على هذا الوجه حسن على الوجه الأول والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقا وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله تعالى : أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون وبالياء كما في قوله : الإيمان أن تؤمن بالله الحديث قالوا : والأول بإعتبار تضمينه معنى الأذعان والثاني بإعتبار تضمينه معنى الإعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يتعبر ما لم يقترن به الإعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث أن الواثق صار ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية ايضا كما في الأساس ويفهم مجازيته ظاهر كلام الكشاف وأما في الشرع فهو التصديق بما علم مجيء النبي به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم أختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمنا شرعا فيما بينه وبين الله تعالى ويكون مقره

الصفحة 110