كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)

به طول عمره مرزوقا وليس كذلك لقوله تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ليس بشيء لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء بل يكتفوا بمطلق الإنتفاع دون الإنتفاع بالفعل بل التمكن فيه فلا يتم الدليل إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته بشيء إنتفاعا محلالا لا رضعة من ثدي ولا شربة من ماء مباح ولا نظرة إلى محبوب ولا وصلة إلى مطلوب بل ولا تمكن من ذلك أصلا والعادة تقضي بعدم وجوده ومادة النقض لا بد من تحققها على أنه لو قدر وجوده لقالوا أن ذلك ليس محرما بالنسبة إليه ومن أضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وأيضا لهم أن يعترضوا بمن عاش يوما مثلا ثم مات قبل أن يتناول حلالا ولا حراما وما يكون جوابنا لهم يكون جوابهم لنا على أن الآية لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الإنتفاع به فإذا حصل الأعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا وأيضا قد يقال : معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحة فالأتصاف أن هذا لا يصلح دليلا والأحسن الإستدلال بالإجماع قبل ظهور المعتزلة على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر تشهد بإنقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة والأصل الذي بنى عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعا صفصفا والإنفاق الإنفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول إعتناء بما خول الله تعالى العبد أو لأنه مقدم على الإنفاق في الخارج ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي ولا مدح أيضا في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء إذا أجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الإنفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع أستحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه وأنتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال إبن القيم في بدائع الفوائد فذهب إبن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله وقيل إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح يؤجر به وإن لم يقصده ويفهم كلام البعض وهو من الغرابة بمكان أن الغاصب أيضا يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد وأقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب ومرة على الفسق فإذا عمل به خيرا ينبغي أن يثاب عليه ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولا يرد على ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقبل الله صدقة من غلول وقوله إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلا بالمال الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدي إليه إلا بتوفيق
وقد أختلف في الإنفاق ههنا فقيل وهو الأولى صرف المال في سبل الخيرات أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة وعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه وعن إبن عباس الزكاة وعنه إبن مسعود نفقة العيال وعن الضحاك التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في الجهاد ولعل هذه الأقوال بمثيل للمنفق لا خلاف فيه وبعضهم جعلها خلافا ورجح كونها الزكاة المفروضة بإقترانها

الصفحة 118