كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)
على غير لسان قريش ثم وفى بذلك عند العرض والتقويم ولم يترك فيه شيئا ولا أحسبك في مرية من ذلك نعم يبقى ما روى بسند صحيح على شرط الشيخين عن هشام بن عروة عن أبيه قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى إن هذان لساحران وعن قوله والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة وعن قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون فقالت يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتاب وكذا ما روى عن سعيد بن جبير كان يقرأ والمقيمين الصلاة ويقول هو لحن من الكاتب ويجاب عن الأول بأن معنى قولها أخطأوا أي في إختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوه من ذلك خطأ لا يجوز فأن ما لا يجوز مردود وإن طالت مدة وقوعه وهذا الذي رأته عائشة وكم لها من رأى رضي الله تعالى عنها وعن الثاني بأن معنى قوله لحن من الكاتب لغة وقراءة له وفي الآية قراءة أخرى وللنحويين في توجيه هذه القرآءات كلام طويل ستسمعه فيما بعد إن شاء الله تعالى وأما الوجه الثاني فلأن من ذهب إلى أن وجه الأعجاز عدم التناقض والإختلاف مع الطول والإمتداد يقول القرآن بجملته معجز لذلك فسلامة كثير من الخطب والشعر من ذلك وظهور ذلك كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار لا يضره شيئا كما لا يخفى فتدبر
وقد أطال العلماء الكلام على وجه إعجاز القرآن وأتوا بوجوه شتى الكثير منها خواصه وفضائله مثل الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأنه لا يمله تاليه بل يزداد حبا له بالترديد مع أن الكلام يعادي إذا أعيد وكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله تعالى بحفظه والذي يخطر بقلب هذا الفقير أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى وقد يظهر كلها في آية وقد يستتر البعض كالأخبار عن الغيب ولا ضير ولا عيب فما يبقى كاف وفي الغرض واف
نجوم سماء كلما أنقض كوكب بدا كوكب تأوى إليه كواكب أما بيان كون النظم معجزا فلأن مراتب تأليف الكلام على ما قيل خمس الأولى ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض فتحصل الكلمات الثلاث الأسم والفعل والحرف والثانية تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض فتحصل الجمل المفيدة وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعا في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ويقال له المنثور والثالثة ضم ذلك إلى بعض ضما له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج ويقال له المنظوم والرابعة أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له المسجع والخامسة أن يحصل له مع ذلك وزن ويقال له إن قصد الشعر والمنظوم إما محاورة ويقال له الخطابة وإما مكاتبة ويقال له الرسالة فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ولكل من ذلك نظم مخصوص والقرآن جامع لمحاسن الجميع بنظم مكتس أبهى حلل ومتعر عن كل خلل ومشتمل على خواص ما شامها سواه ومزايا ما سامها عند أهل النقد نظم إلا إياه
من كل لفظ تكاد الأذن تجعله ربا ويعبده القرطاس والقلم ويؤيد ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو سجع كما يصح أن يقال هو كلام والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم بلا ترديد وهذا مما لا خفاء فيه على الرجال حتى على الوليد وأما بيان ذلك في البلاغة فهو أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في البيان متفاوتة فمنها البليغ الرصين الجزل ومنها الفصيح القريب السهل ومنها الجاري الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها وقد حازت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الأقسام أو فرصة وأخذت من كل نوع أعظم شعبة فأنتظم لها
الصفحة 31
404