كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)

والكسر لقله إذ لا يوجد في الفعل ولا في غير المنصرف ولا في الحروف إلا نادرا يناسب العدم وأما الجر فلموافقة حركة الباء أثرها ولا نقض بواو العطف اللازمة للحرفية ولا بكاف التشبيه اللازمة للجر لأن المجموع سبب الإمتياز ولم يوجد في كل لكن يبقى النقض واو القسم وتائه ويجاب بأن عملها بالنيابة عن الباء التي هي الأصل في حروفه فكأن الجر ليس أثرا لهما وهذه علل نحوية مستخرجة بعد الوقوع لإبداء مناسبة فلا تتحمل مناقشة لضعفها كما قيل : عهد الذي أهوى وميثاقه أضعف من حجة نحوي فلا نسهر جفن الفكر فيما لها وعليها وقال بعضهم من باب الإشارة : كسرت الباء في البسملة تعليما للتوصل إلى الله تعالى والتعلق بأسمائه بكسر الجناب والخضوع وذل البعودية فلا يتوصل إلى نوع من أنواع المعرفة إلا بنوع من أنواع الذل والكسر كما أشار إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض قدس الله تعالى سره الفائض بقوله : ولو كنت لي من نقطة الباء خفضة رفعت إلى ما لم تنله بحيلة بحيث ترى أن لا ترى ما عددته وأن الذي أعددته غير عدة فإن الخفض يقابل الرفع فمن خفضه النظر إلى ذل العبودية رفعه القدر إلى مشاهدة عز الربوبية ولا ينال هذا الرفع بحيلة بل هو بمحض الموهبة الآلهية الجليلة ومن تنزل ليرتفع فتنزله معلول وسعيه غير مقبول إنتهى
وهو أمر مخصوص بباء البسملة لا يمكن أن يجري في باء الجر مطلقا كما لا يخفى وعندي في سر ذلك أن الباء هي المرتبة الثانية بالنسبة إلى الألف البسيطة المجردة المتقدمة على سائر المراتب فهي إشارة إلى الوجود الحق والباء إما إشارة إلى صفاته التي أظهرتها نقطة الكون ولذلك لما قيل للعارف الشبلي أنت الشبلي فقال أنا النقطة تحت الباء وقال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره : الباء للعارف الشبلي معتبر وفي نقيطتها للقلب مدكر سر العبودية العلياء مازجها لذاك ناب مناب الحق فأعتبروا أليس يحذف من بسم حقيقته لأنه بدل منه فذا وزر والصفات إما جمالية أو جلالية وللأولى السبق كما يشير إليه حديث سبقت رحمتي غضبي وباء الجر إشارة إليها لأنها الواسطة في الإضافة والإفاضة فناسبها الكسر وخفض الجناح ليتم الأمر ويظهر السر وفي الإبتداء بها هنا تعجيل للبشارة ورمز إلى أن المدار هو الرحمة كما قال لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته وقد تدرج سبحانه وتعالى بإظهارها فرمز بالباء وأشار بالله وصرح أتم تصريح بالرحمن الرحيم وأما إشارة إلى الحقيقة المحمدية والتعين الأول المشار إليه بقوله أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر وبواسطته حصلت الإفاضة كما يشير إليه لولاك ما خلقت الأفلاك ولكون الغالب عليه عليه الصلاة و السلام صفة الرحمة لا سيما على مؤمني الأمة كما يشير إليه قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقوله تعالى : بالمؤمنين رؤوف رحيم ناسب ظهور الكسر فيما يشير إلى مرتبته وفي الإبتداء به هنا رمز إى صفة من أنزل عليه الكتاب والداعي إلى الله وفي ذلك مع بيان صفة المدعو إليه بأنه الرحمن الرحيم تشويق تام وترغيب عظيم وقد تدرج أيضا جل شأنه في وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك في القرآن إلى أن قال سبحانه وإنك لعلى خلق عظيم وأكتفى بالرمز ههنا لعدم ظهور الآثار بعد وأول الغيث قطر ثم ينهمل وما من سورة إلا أفتتحها

الصفحة 51