كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)
وعمود ربما يجزم بأنه موضوع له فقط ولا يدري أن وراء ذلك موازين ومثل هذا يجري في كثير من الألفاظ والأمر في المشتقات لا يكاد يخفي على من له أدنى فطنة لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الإشتقاق وفي غيرها ربما يشتبه على الجماهير وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة وعلى ذلك فقس الحمد فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال ولما كان الإظهار القولي أظهر أفراده وأشهرها عند العامة شاع إستعمال لفظ الحمد فيه حتى صار كأنه مجاز في غيره مع أنه بحسب الأصل أعم بل الإظهار الفعلي أقوى وأتم فهو بهذا الأسم أليق وأولى كما هو شأن القول بالتشكيك وفرقوا بين الحمد والمدح بأموره
أحدها أن الحمد يختص بالثناء على الفعل الإختياري لذوي العلم والمدح يكون في الإختياري وغيره ولذوي العلم وغيرهم كما يقال مدحت اللؤلؤة على صفتها وثانيها وثالثها أن الحمد يشترط صدوره عن علم لأظن وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما
ورابعها أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح وهو أخص بالعقلاء والعظماء وأكثر إطلاقا على الله تعالى وخامسها أن الحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال والمدح إخبار عن المحاسن ولذا كان الحمد إخبارا يتضمن إنشاء والمدح خبرا محضا وسادسها أن الحمد مأمور به مطلقا ففي الأثر من لم يحمد الناس لم يحمد الله والمدح ليس كذلك أحثوا في وجوه المداحين التراب ويشعر كلام الزمخشري في الكشاف والفائق بترادفهما ففي الأول أنهما أخوان وجعل فيه نقيض المدح أعنى الذم نقيضا للحمد وفي الثاني الحمد المدح والوصف بالجميل فالمدح عنده مخصوص بالإختياري وتأول المدح بالجمال وصباحة الوجه وإحتمال أن يراد من الأخوين ما يكون بينهما إشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب كجبذ وجذب وأن الأدباء يجوزون التعريف بالأعم والنقيض هناك بالمعنى اللغوي ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضا لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى لا بنفي ما قلناه بل إذا أنصفت تكاد تجزم بأن الزمخشري قائل بالترادف ولا تستفزك هذه الإحتمالات لأنها كسراب بقيعة نعم هذا القول بعيد منه وهو شيخ العربية وفتاها فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن المدح يكون على غير الإختياري وكأنه لذلك لم يقل عز شأنه المدح لله كما قالوا إظهارا لأن الله تعالى فاعل مختار وفي ذلك من الترغيب والترهيب المناسبين لمقام البعثة والتبليغ مالا يخفى وأما الشكر فهو ايضا مغاير للحمد إلا أن بعضهم خصه بالعمل والحمد بالقول وبعض جعله على النعم الظاهرة والآخر على النعم الباطنة وأدعى آخرون إختصاصه بفعل اللسان كالحمد في المشهور إلا أنه على النعمة وإليه يشير كلام الراغب والمعروف أنه ما كان في مقابلتها قولا باللسان وعملا وخدمة بالأركان وإعتقادا ومحبة بالجنان وقول الطيبي إن هذا عرف أهل الأصول فإنهم يقولون شكر المنعم واجب ويريدون منه وجوب العبادة وهي لا تتم إلا بهذه الثلاثة وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان غير طيب فإن ظاهر الكتاب والسنة إطلاق الشكر على غير اللسان قال تعالى أعملوا آل داؤد شكرا وروى الطبراني عن النواس بن سمعان أن ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجدعاء سرقت فقال لئن ردها الله تعالى علي لأشكرن ربي فلما ردت قال الحمد للله فأنتظروا هل يحدث صوما أو صلاة فظنوا أنه نسى فقالوا له : فقال ألم
الصفحة 70
404