كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)
بالرجال كيف ومن سنة الله تعالى التي لا تبديل لها إجراء الكلام على سبيل الخطابة وإن كان برهانيا فهي أكثر تأثيرا في النفوس وأنفع لعوام الناس كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فالتحرز عن الإستغراق إحترازا عن المقام الخطابي ذهول عن مقريء كلام الله تعالى ثم لما كان المقام مقتضيا لدقائق النعم وروافدها لم يكن تنزيل الحمد الغير الكامل منزلة العدم من مقتضيات المقام وتصريح الزمخشري في التغابن بالتعميم ممنوع للتفرقة بين إستغراق أفراد الحمد الخارجية والذهنية الحقيقية والمجازية الكاملة وغير الكاملة وبين إختصاص حقيقة الحمد كما يشعر به قوله وذلك لأن الملك على الحقيقة له وكذلك الحمد فكما أنه لا ينفي الملك عن غيره مطلقا فكذلك لا ينفي الحمد عنه كذلك فإن من أصل المعتزلة أن نعمة الله تعالى جارية على يد العبد لكنه موجد لإنعمامه فله حمد يليق بإيجاده ولله تعالى حمد يليق بتمكينه وإفاضته وهو الحمد الكامل المختص به وعز شأنه لا ذاك وفي الكشاف ما يؤيد ما قلناه لمن أمعن النظر وأما حديث إن إختصاص حقيقة الحمد أبلغ من إختصاص الأفراد لاستلزم الأول الثاني فيجاب عنه بأن إختصاص الأفراد الخارجية والذهنية كما قررنا مستلزم لإختصاص الحقيقة ايضا إذ لم يبق لها فرد غير مختص فأين توجد فالإستلزام متعاكس على أن حقيقة الحمد يصدق عليها الحمد فهي فرد من أفراده كما قال الدامغاني : فإذا خصص جميع أفراد الحمد به أختص حقيقته أيضا وكون الأصل نحمد الله تعالى حمدا ليس بقاطع إحتمال الإستغراق الآن فقد تغير الحال وأنت إذا تأملت بعد يرتفع عنك سجاف الأشكال ولست أقول أن الحمد أينما وقع يفيد ذلك بل إذا دعا المقام إليه أجبناه ولهذا فرقوا بين هذا الحمد وحمد الأنعام إذ عموم الربوبية وشمول الرحمة وإستمرار الملك هنا تقتضي إستغراق الأفراد توفية لحق هذه السورة وحرصا على إلتئام نظمها بخلاف ما في تلك السورة فإن المعلومات مفقودة فيها ومن الغريب أن بعضهم جعلها للعهد قال الفاكهي : سمعت شيخنا أبا العباس المرسي يقول لإبن النحاس ما تقول في الألف واللام في الحمد أجنسية هي أم عهدية فقال ياسيدي قالوا إنها جنسية فقلت له الذي أقول إنها عهدية وذلك أن الله تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه قبل أن يحمده فقال أشهدك أنها للعهد وأستأنس له بما صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من قوله اللهم لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأغرب من هذا ما ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وليس بالغريب عندهم أن الحمد لله على حد الكبرياء لله و ألا له الخلق والأمر فهو الحامد والمحمود والجميع شئونه ولهم كلام غير هذا والكل يسقى بماء واحد وعن إمامنا الماتريدي روح الله تعالى روحه أنه جعل هذا حمدا من الله تعالى لنفسه قال وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق ولا ضير في ذلك لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك إذ لا عيب يمسه ولا آفة تحل به ثم أن الحمد فيما تواتر مرفوع وهو مبتدأ خبره لله وقرأ الحسن البصري وزيد بن علي الحمد لله بإتباع الدال اللام وإبراهيم بن عبلة وأهل البادية بالعكس وجاز ذلك إستعمالا لامع أن الإتباع إنما يكون في كلمة واحدة لتنزيلهما لكثرة إستعمالهما مقترنين منزلة الكلمة الواحدة وأختلف في الترجيح مع الأجماع على الشذوذ فقيل قراءة إبراهيم أسهل لأمرين أحدهما أن إتباع الثاني للأول أيسر من العكس وإن ورد كما في مد وشد وأقبل وأدخل لأنه جار مجرى السبب والمسبب وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب وثانيهما أن ضمة الدال إعراب وكسرة اللام بناء وحرمة الأعراب أقوى من حرمة البناء
الصفحة 74
404