كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)
الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن كانت متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده وهي المعبر عنها بإرتفاع الموانع ليست كذلك إذ لا إستحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على إرتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها فإبقاء تلك الموانع التي لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشيء من وجوه غير متناهية وبالجملة آثار تربيته تعالى واضحة المنار ساطعة الأنوار فسبحانه من رب لايضاهي ومنان لا يحصى كرمه ولا يتناهى ونحن في تيار بحر جوده سابحون وعن إقامة مراسم شكره قاصرون وما أحسن قول بعض العارفين أنه تعالى يملك عبادا غيرك وأنت ليس لك رب سواه ثم إنك تتساهل في خدمته والقيام في وظائف طاعته كأن لك ربا بل أربابا غيره وهو سبحانه يعتني بتربيتك حتى كأنه لا عبد له سواك فسبحانه ما أتم تربيته وأعظم رحمته وإنما كان الجمع الواو والنون مع أنه في المشهور جمع قلة والظاهر مستدع لجمع الكثرة تنبيها على أن العوالم وإن كثرت قليلة بل أقل من القليل في جنب عظمة الله تعالى وكبريائه وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه على أن جمع القلة كثيرا ما يوصله المقام إلى جمع الكثرة على أن بعض المحققين المحقين من أرباب العربية ذهب إلى أن الجمع المذكر السالم صالح للقلة والكثرة فأختر لنفسك ما يحلو وقد اشار سبحانه وتعالى بقوله رب العاليمن إلى حضرة الربوبية التي هي مقام العارفين وهي اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تطلب الموجودات فدخل تحتها العليم والسميع والبصير والقيوم والمريد وما أشبه ذلك لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقع عليه فالعليم يقتضي معلوما والقادر مقدورا والمريد مرادا إلى غير ذلك والأسماء التي تحت أسم الرب هي الأسماء المشتركة بين الحق والخلق والأسماء المختصة بالخلق إختصاصا تأثيريا فمن القسم الأول العليم مثلا فإن له وجهين وجه يختص بالجناب الألهي ومنه يقال يعلم نفسه ووجه ينظر إلى المخلوقات ومنه يقال يعلم غيره ومن القسم الثاني الخالق ونحوه من الأسماء الفعلية فله وجه واحد ومنه يقال خالق للموجودات ولا يقال خالق لنفسه تعالى عن ذلك وهذا القسم من الأسماء تحت إسمه الملك ومنه يظهر الفرق بينه وبين الرب وأما الفرق بين الرب والرحمن فهو أن الرحمن عندهم أسم لمرتبة أختصت بجميع الأوصاف العلية الألهية سواء إنفردت الذات به كالعظيم والفرد أو حصل الإشتراك أو الإختصاص بالخلق كالقسمين المتقدمين فهو أكثر شمولا من الرب ومن مرتبة الربوبية ينظر الرحمن إلى الموجودات وأما أسمه تعالى الله فهو أسم لمرتبة ذاتية جامعة وفلك محيط بالحقائق وهو مشير إلى الألوهية التي هي أعلى المراتب وهي التي تعطى كل ذي حق حقه وتحتها الأحدية وتحتها الواحدية وتحتها الرحمانية وتحتها الربوبية وتحتها الملكية ولهذا كان أسمه الله أعلى الأسماء وأعلى من أسمه الأحد فالأحدية أخص مظاهر الذات نفسها والألوهية أفضل مظاهر الذات لنفسها أو لغيرها ومن ثم منع أهل الله تعالى تجلى الأحدية ولم يمنعوا تجلي الألوهية لأن الأحدية ذات محض لا ظهور لصفة فيها فضلا عن أن يظهر فيها مخلوق فما هي إلا للقديم القائم بذاته
ومما قررنا يعلم سر كثرة إفتتاح العبد دعاءه يارب يارب مع أنه تعالى ما عين هذا الأسم الكريم في الدعاء ونفي ما سواه بل قال سبحانه قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن وقال ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها وقال أرباب الظاهر الداعي لا يطلب إلا ما يظنه صلاحا لحاله وتربية لنفسه فناسب أن يدعوه بهذا الأسم ونداء المربي في الشاهد بوصف التربية أقرب لدر ثدي الإجابة وأقوى لتحريك عرق الرحمة وعند ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يختلف الكلام بإختلاف المقام فرقا وجمعا وعندي وهو قبس من أنوارهم أن الأرواح أول ما شنفت آذانها وعطرت
الصفحة 80
404