كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)
كذلك والتعيين مفوض للمقام وذلك لإشتماله على الأزمنة الثلاث ولا يرد أن يوم الدين وما فيه ليس مستمرا في جميع الأزمنة فكيف يتصور كونه تعالى مالكا على الإستمرار لأنا نقول ليس عند ربك صباح ولا مساء وهو سبحانه ليس بزماني والأزل والأبد عنده نقطة واحدة والفرق بينهما بالإعتبار والتعبيرات المختلفة في كلامه عز شأنه بالنظر إلى حال المخاطب فالإستمرار بالنظر إليه تعالى متحقق بلا شبهة ومن هنا يستنبط جواب للسؤال المشهور بأن المالك لا يكون مالكا للشيء إلأ إذا كان موجودا ويوم الدين غير موجود الآن وأجاب غير واحد بأن يوم الدين لما كان محققا جعل كالقائم في الحال وايضا من مات فقد قامت قيامته فكأن القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال ولا يخفى أن السؤال باق على مذهب بعض المتكلمين القائلين بأن الزمان معدوم إذ يقال بعد أن تملك المعدوم محال إلا أن يقال يجعل الكلام كناية عن كونه مالكا للأمر كله لأن تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه ولايلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقي والإستلزام بمعنى الإنتقال في الجملة لا بمعنى عدم الإنفكاك فلا يرد المنع وأنت إذا قرأت ملك تسلم من هذا القيل إن جعلته صفة مشبهة أو ألحقته بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان وأما إذا جعلته صيغة مبالغة كحذر وهو ملحق بأسم الفاعل فيرد عليك ما ورد علينا وأنا من فضل الله تعالى لا تحركني العواصف بل ذلك يريدني في المالك حبا وإنما قال مالك يوم الدين ولم يقل يوم القيامة مراعاة للفاصلة وترجيحا للعموم فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من إبتداء النشور إلى السرمد الدائم بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين ولا يخلو إعتباره عن لطف وأيضا للدين معان شاع إستعماله فيها كالطاعة والشريعة فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ وقد قال بكل من هذين المعنيين بعض والمعنى حينئذ على تقدير مضاف فعلى الأول يوم الجزاء الكائن للدين وعلى الثاني يوم الجزاء الثابت في الدين وإذا أريد بالطاعة في الأول الإنقياد المطلق لظهوره ذلك اليوم ظاهر أو باطنا وجعل إضفاة يوم للدين في الثاني لما بينهما من الملابسة بإعتبار الجزاء لم يحتج إلى تقدير وتخصيص اليوم بالإضافة مع أنه تعالى مالك وملك جميع الأشياء في كل الأوقات والأيام إما للتعظيم وإما لأن الملك والملك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس بحسب الظاهر يزولان وينسلخ الخلق عنهما إنسلاخا ظاهرا في الآخرة وكلهم آتيه يوم القيامة فردا وينفرد سبحانه في ذلك اليوم بهما إنفرادا لإخفاء فيه ولدلك قال سبحانه يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ولمن الملك اليوم لله الواحد القهار وأيضا هنالك يجتمع الأولون والآخرون ويقوم الروح والملائكة صفا وتجتمع العبيد في صعيد واحد وتظهر صفة الجمال والجلال أتم ظهور فتعلم صفة المالكية والملكية للمجموع في آن واحد فوق ما علمت لكل فرد فرد أو جمع جمع على توالي الأزمان وإنما ختم سبحانه هذه الأوصاف بهذا الوصف إشارة إلى الإعادة كما أفتتح بما يشير إلى الإبداء وفي إجرائها عليه تعالى تعليل لإثبات ما سبق وتمهيد لما لحق وفيه إيماء إلى أن الحمد ليس مجرد الحمد لله بل مع العلم بصفات الكمال ونعوت الجلال وهذه أمهاتها ولم تك تصلح الإله ولم يك يصلح الإلها وقد يقال في إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر أسم الذات الجامع لصفات الكمال إشارة إلى أن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمور أربعة إما لكونه كاملا في ذاته وصفاته وإن لم يكن منه إحسان إليهم وإما لكونه محسنا إليهم ومتفضلا عليهم وإما لإنهم يرجون لطفه وإحسانه في الإستقبال وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته فهذه هي الجهات الموجبة للحمد والتعظيم فكأنه سبحانه يقول ياعبادي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي فأحمدوني فإني
الصفحة 85
404