كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)
أذكركم وبين قوله للإسرائيليين : أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وبين ما حكى عن الحبيب من قوله : لا تحزن إن الله معنا وبين ما حكاه عن الكليم من قوله : إن معي ربي سيهدين الثاني في سر قوله نعبد دون أعبد فقد قيل هو الإشارة إلى حال العبد كأنه يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أدكرها وحدها لأنها ممزوجة بالتقصير ولكن أخلطها بعبادة جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة وقيل النكتة في العدول إلى الأفراد التحرز عن الوقوع في الكذب فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حياتا ولا موتا ولا نشورا وياليت الفحل يهضم نفسه فكيف يقول أحدنا إياك أعبد وإياك أستعين بالأفراد ويمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء والمقربين وقيل لو قال إياك أعبد لكان ذلك بمعنى أنا العابد ولما قال إياك نعبد كان المعنى أني واحد من عبيدك وفرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام : ستجدني إن شاء الله من الصابرين وقوله تعالى : حكاية عن موسى ستجدني إن شاء الله صابرا فصبر الذبيح لتواضعه بعد نفسه واحدا من جمع ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلا منهما عليهما السلام قال إن شاء الله وقيل الضمير في الفعلين للقاري ومن معه من الحفظة وحاضري الجماعة وقيل هو من باب صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ على ما ذكره الغزالي قدس سره وقد تقدم الثالث في سر تقديم فعل العبادة على فعل الإستعانة وله وجوه الأول أن العبادة أمانة كما قال تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان فأهتم للأداء فقدم الثاني أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا وإعتدادا منه بما صدر عنه فعقبه بقوله : وإياك نستعين ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة وتوفيق وإذن منه سبحانه الثالث أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى والإستعانة ليست كذلك فالأول أهم الرابع أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه أدعى للإجابة
الخامس أنها مطلوبة لله تعالى من العبادة والإستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه السادس أن العبادة واجبة حتما لا مناص للعباد عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم السابع أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والإستعانة أقوى إلتئاما بطلب الهداية الثامن أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالإستعانة بعد الرسوخ التاسع أن في تأخير فعل الإستعانة توافق رؤوس الآي العاشر أن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلى وأحسنت إلى فقضيت حقي
الحادي عشر أن مقام السالكين ينتهي عند قوله إياك نعبد وبعده يطلب التمكين وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا أنجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم الله تعالى عليها سابغة وألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى رب العالمين فشاهدت ما سوى الله سبحانه على شرف الفناء مفتقرا إلى المبقى محتاجا إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي فنادت بلسان الإضطرار في مقام لمن الملك اليوم لله الواحد القهار أسلمت نفسي إليك وأقبلت بكليتي عليك وهناك خاضت لجة الوصول وأنتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال إياك نعبد وهنا إنتهاء مقام السالك
الصفحة 88
404