كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)
ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا فطلب التمكين بقوله : وإياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم وأستعاذ عن التلوين بقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين فصعد مستكملا ورجع مكملا وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين البحث الرابع في سر الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب وقد أزدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة وهي التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع فقيل لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ليكون أدل على الإختصاص والترقي من البرهان إلى العيان والإنتقال من الغيبة إلى الشهود وكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيب حضورا وقيل لما شرح الله تعالى صدر عبده وأفاض على قلبه وقالبه نور الإيمان والإسلام من عنده ترقى بذريعة الحمد المستجاب لمزيد النعم إلى رتبة الإحسان وهو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وايضا حقيقة العبادة إنقياد النفس الأمارة لأحكام الله تعالى وصورته وقالبه الإسلام ومعناه وروحه الإيمان ونوره ونوره الإحسان وفي نعبد والإلتفات تتم الأمور الثلاثة وأيضا لما تبين أنه ملك في الأزل ما في أحايين الأبد علم أن الشاهد والغائب والماضي والمستقبل بالنسبة إليه على حد سواء فلذلك عدل عن الغيبة إلى الخطاب ويحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى والله تعالى حي كريم وقيل أنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة وحضورا بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام فلما أفلت قال لا أحب الآفلين لا جرم عبر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب وأيضا من تشبه بقوم فهو منهم فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر ومزج عبادته بعبادتهم وتكلم بلسانهم وساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوبا في عدادهم مندرجا في سياقهم إن لم تكونوا منهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح وأيضا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب والإنكسار ورأى نفسه بعيدا عن ساحة القرب لكمال الإحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية وتلحقه عناية أزلية تجذبه إلى حظائر القدس وتطلعه على سرائر الأنس فيصير واطئا على بساط الإقتراب فائزا بعز الحضور وسعادة الخطاب وأيضا أنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإن خطبها عظيم ومنأدب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور والملال مقرونة بكمال النشاط موجبة لتمام الإنبساط حمامة جرعى حومة الجندل أسجعي فأنت بمرأى من سعاد ومسمع وأيضا إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم ويخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديه وأما إذا آل أمره بملازمة الإذكار إلى إرتفاع الحجب والأستار وإضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق والجمال المطلق وأنتهى إلى مقام الجمع وصار في مقعد أينما تولوا فثم وجه الله فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه ولا يمكن إظهار السر إلا لديه فينعطف عنان لسانه إلى جنابه ويصير كلامه منحصرا في خطابه وثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة
الصفحة 89
404