كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)
كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا أهدنا الصراط المستقيم وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض إنتهى ووجه التخصيص حينئذ كمال إحتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي والقرينة مقارنة العبادة ولا خفاء في وضحها وكون عموم المفعول متضمنا لما ذكر معارض بنكتة التخصيص والرواية عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل والإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولا أوليا أولى من مجرد التوفيق ويلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات والإعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العلى وكلها مفتقر إلى إعانة الله تعالى وفضله وأيضا طرق الضلالات اتي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالين لا نهاية لها وبإستعانته يتخلص من مهالكها وأيضا لا يخفى أن المراد بالعبادة في إياك نعبد هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه فإذا توافق الإستعانة في العموم وأيضا قوله أنعمت عليهم مطلق شامل كل إنعام وأيضا لو كان المراد الإستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة يبقى حكم الإستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب ولا أظن أحدا يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال لإبن عباس : إذا أستعنت فأستعن بالله الحديث وهو ظاهر فيه ولعل إبن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه وهو الظن الغالب فمن أستعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها فقد أستسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم أفلا يستعان به وهو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا وراءوا الثروة من سواه فأفتقروا وحاولوا الأرتفاع فأتضعوا فلا مستعان إلا به ولا عون إلا منه إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي وزيد بن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي نعبد بكسر النون وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وهذيل وكذلك حكم حروف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه كنستعين مما لم ينضم ما بعدها فيه سوى الباء لإستثقال الكسرة عليها على أن بعضهم قال يجل بكسر ياء المضارعة من وجل وقرأ بعضهم يعلمون وقرأ الحسن وإبن المتوكل وأبو محلف يعبد بالياء مبنيا للمفعول وهو غريب وعن بعض أهل مكة أنه قرأ نعبد بإسكان الدال وقرأ الجمهور نعبد بفتح النون وضم الدال وهي لغة أهل الحجاز وهي الفصحى إهدنا الصراط المستقيم الهداية دلالة بلطف لدلالة إشتقاقه ومادته عليه ولذا أطلق على المشي برفق تهاد وسميت الهداية لطفا وقوله تعالى : فأهدوهم إلى صراط الجحيم وارد على الصحيح مورد التهكم على حد فبشرناهم بعذاب أليم ويقال هداه لكذا وإلى كذا فتعديه باللام وإلى إذا لم يكن فيه وهداه كذا بدونهما محتمل للحالين حتى لا يجوز في والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا لسبلنا أو إلى سبلنا إلا بإرادة الإرادة في جاهدوا أو إرادة تحصيل المراتب العلية في سبلنا ومن ثم جمعها وقد ورد من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم وقد يقال المراد بيان الإستعمال الحقيقي وأما باب التجوز فواسغ وهل يعتبر في الدلالة الإيصال أم لا
الصفحة 91
404