كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 1)
فيه اختلاف المتأخرين منأهل اللسان ففريق خصها بالدلالة الموصلة وآخرون بالدلالة على ما يوصل وقليل قال إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال ولا تسند إلا إليه تعالى كما في الآية وإن تعدت باللام أو إلى كانت بمعنى إرادة الطريق فكما تسند إليه سبحانه تسند إلى القرآن كقوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وإلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كقوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم والكل من هذه الآراء غير خال عن خلل أما الأول فيرد عليه قوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فأستحبوا العمى على الهدى والجواب بجواز وقوعهم في الضلال بالإرتداد بعد الوصول إلى الحق لا يساعده ما في التفاسير والتواريخ فإنها ناطقة بأن الجم الغفير من قوم ثمود لم يتصفوا بالإيمان قطعا وما آمن من قومه إلا قليل وقد بقوا على إيمانهم ولم يرتدوا على أن صاحب الذوق يدرك من نفس الآية خلاف الفرض كما لا يخفى وأما الثاني فيرد عليه قوله تعالى لحبيبه صلى الله تعالى عليه وسلم إنك لا تهدي من أحببت وما يقال إنه على حد قوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى أو أن المعنى أنك لا تتمكن من إراءة الطريق لكل من أحببت بل إنما يمكنك إراءته لمن أردنا لا يخلو عن تكلف وأما الثالث فإن كلام أهل اللغة لايساعده بل ينادي بما ينافيه ومع ذلك فالقول بأن المتعدية لا تسند إلا إلى الله تعالى منتقض بقوله تعالى حكاية عنإبراهيم عليه السلام ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فأتبعني أهدك صراطا سويا وعن مؤمن آل فرعون ياقوم أتبعوني أهدكم سبيل الرشاد ولهذا الخلل قال طائفة بالإشتراك والبحث لغوي ولا دخل للإعتزال فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمته والصراط الطريق وأصله بالسين من السرط وهو اللقم ولذلك يسمى لقما كأن سالكه يبتلعه أو يبتلع سالكه ففي الأزهري أكلته المفازة إذا نهكته لسيره فيها وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة قال أبو تمام : رعته الفيافي بعد ما كان حقبة رعاها وماء المزن ينهل ساكبه وبالسين على الأصل قرأ إبن كثير برواية قنبل ورويس اللؤلؤي عن يعقوب وقرأ الجمهور بالصاد وهي لغة قريش وقرأ حمزة بإشمام الصاد زايا والزاي الخالصة لغة لعذرة وكعب والصاد عندي أفصح وأوسع وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله وتذكيره هو الأكثر ويجمع في الكثرة على صراط ككتاب وكتب وفي القلة قياسه أصرطة هذا إذا كان الصراط مذكرا وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع و المستقيم المستوي الذي لا إعوجاج فيه وأختلف في المراد منه فقيل الطريق الحق وقيل ملة الإسلام وقيل القرآن وردهما الرازي قدس سره بأن قوله تعالى صراط الذين أنعمت عليهم يدل على الصراط المستقيم وهم المتقدمون من الأمم وما كان لهم القرآن والإسلام وفيه ما لا يخفى والعجب كل العجب من هذا المولى أنه ذكر في أحد الوجوه المرضية عنده أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الأفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وأكد ذلك بقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا فياليت شعري ماذا يقول لو قيل له لم يكن هذا للمتقدمين من الأمم وتلونا عليه الآية التي ذكرها وسبحان من لا يرد عليه وقيل المراد به معرفة ما في كل شيء من كيفية دلالته على الذات والصفات وقيل المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى وقيل العبادة لقوله تعالى وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم والقرآن يفسر بعضه بعضا وفيه نظر وقيل هو الإعراض عن السوي والإقبال بالكلية على المولى وقال الشيخ الأكبر قدس سره وهو ثبوت التوحيد في الجمع والتفرقة ولهمأقوال غير ذلك قريبة وبعيدة وعندي بعد الأطلاع على ما للعلماء وكل حزب بما لديهم فرحون أن الصراط المستقيم بتنوع إلى عام للناس وخاص بخواصهم والكل منهما صراط المنعم عليهم على إختلاف درجاتهم فالأول جسر بين العبد وبين الله
الصفحة 92
404