كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 2)

ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب عطف على وإن الذين بجامع أن كلا منهما مؤكد لآمر القبلة ومبين لحقيته والمراد من الموصول الكفار من أولئك بدليل الجواب ولذا وضع المظهر موضع المضمر ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما ينافيه من الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله بكل آية وحجة قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق واللام موطئة لقسم محذوف ما تبعوا قبلتك جواب القسم ساد مسد جواب الشرط لا جواب الشرط لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما للقسم لا للشرط إن لم يكن مانع فكيف إذا كان كترك الفاء ههنا فإنها لازمة في الماضي المنفي إذا وقع جزاءا وهذا تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قبولهم الحق والمعنى أنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تدفعها بحجة وإنما خالفوك لمحض الناد وبحت المكابرة وليس المراد من التعليق بالشرط الأخبار عن عدم متابعتهم على أبلغ وجه وآكده بأن يكون المعنى أنهم لا يتبعونك أصلا وإن أتيت بكلحجة فأندفع ما قيل : كيف حكم بأنهم لا يتبعون وقد آمن منهم فريق وأستغنى عن القول بأن ذلك في قوم مخصوصين أو حكم على الكل دون الأبعاض فإنه تكلف مستغنى عنه وإضافة القبلة إلى ضميره لأن الله تعالى تعبده بإستقبالها وما أنت بتابع قبلتهم أي لا يكون ذلك منك ومحال أن يكون فالجملة خبرية لفظا ومعنى سيقت لتأكيد حقية أمر القبلة كل التأكيد وقطع تمني أهل الكتاب فإنهم قالوا : يا محمد عد إلى قبلتنا ونؤمن بك ونتبعك مخادعة منهم لعنهم الله تعالى وفيها إشارة إلى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة أبدا وقيل : إنها خبرية لفظا إنشائية معنى ومعناها النهي أي لا تتبع قبلتهم أي داوم على عدم إتباعها وأفرد القبلة وإن كانت مثناة إذ لليهود قبلة وللنصارى قبلة لأنهما أشتركتا في كونهما باطلتين فصار الإثنان واحدا من حيث البطلان وحسن ذلك المقابلة لأن قبله ما تبعوا قبلتك وقد يقال : إن الأفراد بناء على أن قبلة الطائفتين الحقة في الأصل بيت المقدس وعيسى عليه السلام لم يصل جهة الشرق حتى رفع وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم ثم بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الإستقبال إلى الشرق وأعتذروا بأن المسيح عليه السلام فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء وذكروا لهم أن في الشرق أسرارا ليست في غيره ولهذا كان مولد المسيح شرقا كما يشير إليه قوله تعالى : إذ إنتبذت من أهلها مكانا شرقيا وأستقبل المسيح حين صلب بزعمهم الشرق وقيل : إن بعض رهبانهم قال لهم : إني لقيت عيسى عليه الصلاة و السلام فقال لي : إن للشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم فصدقوا وفعلوا ويؤيد ذلك أنه ليس في الإنجيل إستقبال الشرق وذهب إبن القيم إلى أن قبلة الطائفتين الآن لم تكن قبلة بوحي وتوقيف من الله تعالى بل بمشورة وإجتهاد منهم أما النصارى فأجتهدوا وجعلوا الشرق قبلة وكان عيسى قبل الرفع يصلي إلى الصخرة وأما اليهود فكانوا يصلون إلى التابوت الذي معهم إذا خرجوا وإذا قدموا بيت المقدس نصبوه إلى الصخرة وصلوا إليه فلما رفع أجتهدوا فأدى إجتهادهم إلى الصلاة إلى موضعه وهو الصخرة وليس في التوراة الأمر بذلك والسامرة منهم يصلون إلى طورهم بالشام قرب بلدة نابلس وهذا القولان إن صحا يشكل عليهما القول بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة فتدبر
ثم إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه : كونها أسمية وتكرر فيها الأسم مرتين وتأكيد نفيها

الصفحة 11