كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 2)

حصول الحكم معللا ومقررا في الذهن ولا يدل على بلوغه غاية الوجوب بحيث يفوت الجواز بفوته لتتحقق الركنية وهو ظي السند وإن فرض قطعي الدلالة فلا يدل على الفرضية وما روى مسلم عن عائشة أنها قالت لعمري ما أتم الله تعالى حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته ليس فيه دليل على الفرضية أيضا سلمنا لكنه مذهب لها والمسألة إجتهادية فلا تلزم به على أنه معارض بما أخرجه الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي أنه قال : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمزدلفة فقلت يارسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال : من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد أدرك عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه فأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بتمام حجه وليس فيه السعي بينهما ولو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله وقرأ إبن مسعود وأبي أن لا يطوف ولا تصلح أن تكون ناصرة للقول الأول لأنها شاذة لا عمل بها مع ما يعارضها ولإحتمال أن لا زائدة كما يقتضيه السياق
ومن تطوع خيرا أي من إنقاد إنقيادا خيرا أو بخير أو آتيا بخير فرضا كان أو نفلا وهو عطف على فمن حج إلخ مؤكد أمر الحج والعمرة والطواف تأكيد الحكم الكلي للجزئي أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من حج أو عمرة أو طواف لقرينة المساق وعليه تكون الجملة مسوقة لإفادة شرعية التنفل بالأمور الثلاثة وفائدة خيرا على الوجهين مع أن التطوع لا يكون إلا كذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أي خير كان يثاب عليه أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من السعي فقط بناءا على أنه سنة والجملة حينئذ تكميل لدفع ما يتوهم من نفي الجناح من الإباحة وفائدة القيد التنصيص بخيرية الطواف دفعا لحرج المسلمين وقرأ إبن مسعود ومن تطوع بخير وحمزة والكسائي ويعقوب يطوع على صيغة المضارع المجزوم لتضمن من معنى الشرط وأصله يتطوع فأدغم فإن الله شاكر أي مجاز على الطاعة بالثواب وفي التعبير به مبالغة في الإحسان إلى العباد
عليم 851
مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا وبهذا ظهر وجه تأخير هذه الصفة عما قبلها ومن قال : أتى بالصفتين ههنا لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد فناسب ذكر الشكر بإعتبار الفعل وذكر العلم بإعتبار القصد وأخر صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر كما أن النية متقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآيلم يأت بشيء
وهذه الجملة علة لجواب الشرط المحذوف قائم مقامه كأنه قيل : ومن تطوع خيرا جازاه الله تعالى أو أثابه فإن الله شاكر عليم إن الذين يكتمون
إخرج جماعة عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه قال : سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وعن قتادة أنها نزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى وقيل : نزلت في كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل فقد روى البخاري وإبن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا هذه الآية وأخرج أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله : من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار والأقرب أنها نزلت في اليهود والحكم عام كما تدل عليه الأخبار وكونها نزلت في اليهود لا يقتضي الخصوص فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب فالموصول

الصفحة 26