كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 2)
المقابل المتوجه إليه للصلاة
التي كانوا عليها
أي على إستقبالها والموصول صفة القبلة وفي وصفها بذلك بعد إضافتها إلى ضمير المسلمين تأكيد للإنكار ومدار هذا الإنكار بالنسبة إلى اليهود زعمهم إستحالة النسخ وكراهتم مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم في القبلة حتى أنهم قالوا له : أرجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك ولعلهم ما أرادوا بذلك إلا فتنته عليه الصلاة و السلام وبالنسبة إلى مشركي العرب القصد إلى الطعن في الدين وإظهار أن كلا من التوجه إليها والإنصراف عنها بغير داع إليه حتى أنهم كانوا يقولون : إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وبالنسبة إلى المنافقين مختلف بإختلاف أصولهم فإن فيهم اليهود وغيرهم وأختلف الناس في مدة بقائه مستقبلا بيت المقدس ففي رواية البخاري ما علمت وفي رواية مالك بن أنس تسعة أشهر أو عشرة أشهر وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا وعن الصادق سبعة أشهر وهل أستقبل غيره قبل بمكة أم لا قولان أشهرهما الثاني وهو المروي أيضا عن الصادق رضي الله تعالى عنه
قل لله المشرق والمغرب
أي جميع الأمكنة والجهات مملوكة له تعالى مستوية بالنسبة إليه عز شأنه لا إختصاص لشيء منها به جل وعلا إنما العبرة لإمتثال أمره فله أن يكلف عباده بإستقبال أي مكان وأي جهة شاء
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 241
أي طريق مستو وهو ما تقتضيه الحكمة من التوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى والجملة بدل إشتمال مما تقدم وهو إشارة إلى مصحح التولية وهذا إلى مرجحها كأنه قيل : إن للتولية المذكورة هداية يخص الله تعالى بها من يشاء ويختار من عباده وقد خصنا بها فله الحمد
وكذلك جعلناكم مة وسطا
إعتراض بين كلامين متصلين وقعا خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم إستطرادا لمدح المؤمنين بوجه آخر أو تأكيدا لرد الإنكار بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء عليكم يوم الجزاء وشهاداتهم مقبولة عندكم فأنتم إذا أحق بإتباعهم والإقتداء بهم فلا وجه لإنكاركم عليهم وذلك إشارة إلى الجعل المدلول عليه بجعلنا كموجيء بما يدل على البعد تفخيما والكاف مقحم للمبالغة وهو إقحام مطرد ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير جعلناكم أمة وسطا جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر وأقحمت الكاف فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم لا جعلا آخر أدنى منه كذا قالوا وقد ذكرنا قبل أن كذلك كثيرا ما يقصد بها تثبيت ما بعدها وذلك لأن وجه الشبه يكون كثيرا في النوعية والجنسية كقولك هذا الثوب كهذا الثوبفي كونه خزا أو بزا وهذا التشبيه يستلزم وجود مثله وثبوته في ضمن النوع فأريد به على طريق الكناية مجرد الثبوت لما بعده ولما كانت الجملة تدل على الثبوت كان معناها موجودا بدونها وهي مؤكدة له فكانت كالكلمة الزائدة وهذا معنى قولهم إن الكاف مقحمة لا أنها زائدة كما يوهمه كلامهم وأما إستفادة كون ما بعدها عجيبا فليس إلا لأن ما ليس كذلك لا يحتاج لبيان فلما أهتم بإثباته في الكلام البليغ علم أنه أمر غريب أو الحمل البعد المفهوم من ذلك على البعد الرتبي ومن الناس من جعل كذلك للتشبيه بجعل مفهوم من الكلام السابق أي مثل ما جعلناكم مهديين أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل جعلناكم امة وسطا ويرد على ذلك أن المحل المشبه به غير مختص بهذه الأمة لأن مؤمني الأمم السابقة كانوا أيضا مهتدين إلى صراط مستقيم وكانت قبلة بعضهم أفضل القبل أيضا والجعل المشبه مختص بهم فلا يحسن التشبيه على أنه لا يفهم من السابق سوى أن التوجه إلى كل
الصفحة 3
180