كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 2)

واحد القبلتين في وقته صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن قبلتهم أفضل القبل والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ اللهم إلا أن يكون مراد القائلكما جعلنا قبلتكم الكعبة التي هي أفضل القبل في الواقع جعلناإلا أنه على ما فيه لا يسحم لايراد كما لايخفى ومعنى وسطا خيارا أو عدولا وهو في الأصل أسم لما يستوي نسبة الجوانب إليهكالمركزثم أستعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الأفراط والتفريط كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور والحكمة بين الجربزة والبلادة ثم اطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل وأستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من قولهم : خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهمعلى الذم أثقل من مغن وسطلأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس وليس بجيد فيطرب ولا برديء فيضحك وقولهم : أخو الدون الوسط بل هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها وصميمها وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية أعني إستعمالها قفيما ينبغي على ما ينبغي ولما كان علم العباد لم يعط إلا بالظاهر أقام الفقهاء الإجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلكوسموه عدالةفي إحياء الحقوق فيلحفظ وشاع عن أبي منصور الإستدلال بالآيةعلى أن الإجماع حجة إذ لو كان ما أتفقت عليه الأمة باطلا لأنثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار فلا يتم إذ كونهم خيارا لايقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلاينافي إتفاقهم على الخطألا يخلو عن شيء أما أولا فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الإجتهاد إذ لا فسق فيه كيف والمجتهد المخطيء مأجور وأما ثانيا فلأن المراد كونهم وسطا بالنسبة إلى سائر الأمم وأما ثالثا فلأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد وأما رابعا فلأنه لا يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة وأما خامسا فلأن قصارى ما تدل عليه بعد اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر ولا تدلعلى حجية إجماع مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك وأجيب عن الأول والثاني بأن العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الإعتقاد والقول والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة عن حالة متشابهة حاصلة عن إمتزاج الأوساط من القوى التي ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا وعن الثالث بأن المراد أن فيهم من يوجد على هذه الصفة فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم أفتقرنا إلى إجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفةلكن يدخل المعتبرون في إجتماعهمومتى دخلوا وحصل الخطأ أنثلمت عدالة المجموع
وعن الرابع بأن جعلناكم يقتضي تحقق العدالة بالفعل وإستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر
وعن الخامس بأن الخطاب للحاضرينأعني الصحابة كما هو أصلهفيدل على حجية الإجماع في الجملة وأنت تعلم أن هذا الجواب الأخير لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا لأنه بعيد بمراحل عن مقصود المستدل على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن الآية خاصة بالأئمة الأثني عشر ورووا عن الباقر أنه قال : نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه وعن علي كرم الله تعالى وجهه : نحن الذين قال الله تعالى فيهم : وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقالوا : قول كل واحد من أولئك حجة

الصفحة 4