كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 2)

قد نرى تقلب وجهك في السماء أي كثيرا ما نرى تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفا للوحي وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقع في قلبه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لما أن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا ولما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه بل كان ينتظر فقط إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره ففي ذلك دلالة على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال قتادة والسدي وغيرهما : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى الكعبة فعلى هذا يكون السؤال واقعا منه عليه الصلاة و السلام ولم يذكر لأن تقلب الوجه نحو السماء التي هي قبلة الدعاء يشير إليه في الجملة ولعل ذلك بعد حصول الأذن له بالدعاء لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إليه فيكون فتنة لقومهم ويؤيد ذلك ما في بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أستأذن جبريل أن يدعوا الله تعالى فأخبره بأن الله تعالى قد أذن له بالدعاء كذا يفهم من كلامهم والذي أراه أنه لا مانع من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم وسؤاله التحويل لمصلحة ألهمها ومنفعة دينية فهمها ولا يتوقف ذلك على الإستئذان ولا الأذن الصريحين لأن من نال قرب النوافل مستغن عن ذلك فكيف من حصل له مقام قرب الفرائض حتى غدا سيد أهله ومن علم مرتبة الحبيب عد جميع ما يصدر منه في غاية الكمال مع مراعاة نهاية الأذب وأما معاتبته صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما صدر فليس لنقص فيه ولا لإخلال بالأدب عند فعله حاشاه ولكن لإسرار خفية وحكم ربانية علمها من علمها وجهلها من جهلها بقى هل دعا صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الحادثة صريحا أم لا الظاهر الثاني بناءأ على ما صح عندنا من ظواهر الأخبار حيث لم يكن فيها سوى حب التحويل فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء قال : صلينا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم علم الله تعالى هوى نبيه عليه الصلاة و السلام فنزلت قد نرى الآية وليس في الآية ما يدل صريحا على أحد الأمرين وأما الإشارة فقد تصلح لهذا وهذا كما لا يخفى هذا ومن الناس من جعل قد هنا للتقليل زعما منه أن وقوع التقلب قليلا أدل على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم وأعترض بأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال له : قلب بصره إلى السماء وإنما يقال : قلب إذا داوم فالكثرة تفهم من الآية لا محالةلأن التقلبالذي هو مطاوع التقليب يدل عليها وهل التكثير معنى لقدأو حقيقي قولان نسب ثانيهما إلى سيبويه وهذه الكثرة أو القلة هنا منصرفة إلى التقلب وذكر بعض النحاة أن قد تقلب المضارع ماضيا ومنه ما هنا وقوله تعالى : قد يعلم ما أنتم عليه ولقد نعلم أنك يضيق صدرك إلى غير ذلك فلنولينك قبلة أي لنمكننك من إستقبالها من قولك : وليته كذا إذا جعلته واليا له أو فلنجعلنك تلي جهتها دون جهة بيت المقدس من وليه دنا منه ووليته أدنيته منه والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها وهي في الحقيقة داخلة على قسم محذوف تدل عليه اللام وجاء هذا الوعد على إضمار القسم مبالغة في وقوعه لأنه يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها وجاء قبل الأمر لفرح انفس بالإجابة ثم بإنجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين ونولي يتعدى لإثنين الكاف الأول وقبلة الثاني وقوله تعالى : ترضاها أي تحبها وتميل إليها للأغراض الصحيحة

الصفحة 8