كتاب روح المعاني (إحياء التراث العربي) (اسم الجزء: 3)

قال : سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : وسع كرسيه الخ قال : كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره وقيل : هو العرش نفسه ونسب ذلك إلى الحسن وقيل : قدره الله تعالى وقيل : تدبيره وقيل : ملك من ملائكته وقيل : مجاز عن العلم من تسمية الشئ بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل وحكى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : عن الملك أخذا من كرسي الملك وقيل : أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة ففى الكلام إستعارة تمثيلية وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي إختاره الجم الغفير من الخلف فرارا من توهم التجسيم وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم كما قدمنا وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعرى الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل وفي رواية عن عمر مرفوعا له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل عن إتباع الشارع التسليم له
وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لايحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك وقد ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام المعبر عنهما بالقدمين وقد وسع السموات والأرض وسع وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا ولا الأطيط عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء المتضادة أو إجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق والجمع ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن أن يراها إلا من ولد مرتين وليس المراد من الأصابع الأربع ما تعرفه من نفسك وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا ولعلنا نشير إلى بعض منه إن شاء الله تعالى ثم المشهور أن الياء في الكرسي لغير النسب وإشتاقه من الكرسي وهو الجمع ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم وقيل : كأنه منسوب إلى الكرسي : بالكسر وهو الملبد وجمعه كراسي كبختى وبخاتي وفيه لغتان ضم كافه وهى المشهورة وكسرها للأتباع والجمهور على فتح الواو والعين وكسر السين في وسع على أنه فعل والكرسي فاعله وقرئ بسكون السين مع كسر الواو كعلم في علم وبفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع جر كرسيه ورفع السموات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده و السموات والأرض خبره ولا يؤده أي لايثقله كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مأخوذ من الأود بمعنى الإعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته وماضيه آد والضمير لله تعالى وقيل : الكرسي حفظهما

الصفحة 10